بعد انتخابه ديموقراطياً، بدأ محمد مرسي عهده متكئاً على بنية قمعية إعلامية، قانونية، قضائية، وعسكرية. لكنّ هذه الممارسات السلطوية القديمة/ الجديدة ما لبثت أن أثارت سلسلة من ردود الفعل النقدية ضمن مجموعة متنامية من الناشطين والفنانين والصحافيين والمدونين الذين ساهموا في أعمال دورية لا تزال تتحدى وتفضح النظام السياسي. وفي صلب ذلك، تقع الكوميديا والمحاكاة الساخرة التي يشكل باسم يوسف أحد أبرز وجوهها.
باسم يوسف، وهو من المعجبين ببرنامج "دايلي شو" لجون ستيوارت، بدأ بتسجيل حلقات عن آخر أيام نظام حسني مبارك وحكم العسكر، من داخل غرفته، قبل أن يقوم بتحميلها على موقع "يوتيوب". لكنّ الجرّاح الذي تحول إلى كوميدي، بات بين ليلة وضحاها نجماً افتراضياً، مما دفع قنوات مصرية معارضة إلى منحه منبراً على شاشتها. وهكذا وُلد البرنامج الذي ارتأى باسم يوسف تسميته، ببساطة، "البرنامج". كأنه كان يعلم أنّ برنامجه سيصبح فعلاً "ال" برنامج الأول على الشاشات المصرية، ويجذب حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي قرابة أربعة ملايين مشترك.
****
بعد تسريبات إعلامية غير مؤكدة بشأن نية دولة قطر استئجار الأهرامات المصرية وقناة السويس، وبعد الانحياز الفاضح لقناة "الجزيرة" لمصلحة الإخوان المسلمين، تحوّلت الإمارة الصغيرة إلى اسم غير مرغوب به لدى المعارضة المصرية، واتهم الناشطون المصريون الإخوان بتحولهم إلى دمى تحرك خيوطها قطر، كما أدانوا النيات القطرية المشبوهة لجهة تسليع الموارد والمواقع التاريخية المصرية. هكذا ظهرت قطر، في ٥ نيسان، في برنامج "البرنامج"، من خلال أغنية "قطري حبيبي".ثلاثة مغنّين وجوقة كاملة من الشابات والشبان مرتدين ثياباً رسمية تعود موضتها إلى الستينات والسبعينات، بدأوا بأداء الأغنية الآتية وسط ذهول الجمهور:
قطري حبيبي .. الأخ الأصغر
يوم ورا يوم .. أمواله بتكتر
استثماراته .. مالية حياته
قطري بيصرف وبيتفشخر
قطري .. قطري
لقد رأى عدد من المعلقين في هذه الأغنية مثالاً آخراً على الشوفينية المصرية تجاه دول الخليج، وتعبيراً ساذجاً عن التبرّم من الثروة الجديدة للأخ القطري الأصغر. لكن، في أقل من ٢٤ ساعة، حققت الأغنية نجاحاً منقطع النظير. فأين يكمن سر هذا النجاح؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء.
****
منذ أواسط الخمسينات، برز جمال عبد الناصر كتجسيد لمنظومة عربية جديدة قائمة على التحرر من الاستعمار ومحو آثار النكبة. وكما كان لهذه المنظومة فكرها القومي العربي، كانت لها أيضاً ثقافتها وأناشيدها. ففي العام ١٩٦٠، قام الموسيقار محمد عبد الوهاب والشاعر أحمد شفيق كامل بإنتاج "أوبريت الوحدة العربية: وطني حبيبي"، بطلب من عبد الناصر نفسه.
وفي الفيلم المصوّر لتلك الأغنية، يظهر عبد الوهاب وهو يقود كورساً كبيراً من النساء والرجال، فيما يقوم عشرات الفتيات والفتيان بما يشبه العرض العسكري حاملين أعلام البلدان العربية المستقلة حديثاً. هكذا تبدأ الأغنية التي يستغرق وقتها قرابة العشر دقائق:
وطني حبيبي... الوطن الأكبر
يوم ورا يوم... أمجاده بتكبر
وانتصارته... مالية حياته
وطني بيكبر وبيتحرر
وطني... وطني
وفي لعبة تقنية لافتة في زمن التلفزيون الأسود والأبيض، تبدأ منصّة بالارتفاع من أسفل المسرح، ليظهر عليها مؤدو الأوبريت الذين تربعوا على عرش الأغنية المصرية في الزمن الناصري: عبد الحليم حافظ، فايدة كامل، شادية، ونجاة. كلٌّ بدوره، ينشد مقطعاً من الأغنية المستقاة من أدبيات القومية العربية (وطن، خلود، جنّة، الشعب العربي، الوحدة)، الثورة (تحرّر، حرية)، المقاومة (جحيم، نار)، العدو (استعمار، طغيان، استعباد)، والنصر (مجد، انتصارات، عزّة)، إضافة إلى توجيه التحية لأقطار عربية عدة (مراكش، الجزائر، عمان، بيروت، البحرين، اليمن، دمشق، جدّة، بور سعيد، وفلسطين). والغالب في هذه الأنشودة التضاد بين ثنائيات الثائر والظالم، الخير والشر، العربي والمستعمر. وهي مفاهيم اختُزلت بثنائية ضمير المتكلم "نحن" (وطننا، قلوبنا) وضمير الغائب "هم" (استعمارهم، دمّرهم).
وقد شارك في أداء هذه الأغنية التي شهدت انتشاراً واسعاً في الستينات والسبعينات كل من الجزائرية وردة واللبنانية صباح اللتين لم تترددا في الإنشاد بلهجة مصرية واضحة. ولا عجب في ذلك، فنحن في العام ١٩٦٠، في زمن القومية العربية بنسختها الناصرية.
وإلى ذاك الزمن، حملنا باسم يوسف في أنشودته الساخرة التي يعلم أن نجاحها يتطلب إلفة لدى المتلقي مع النسخة الأصلية. لذلك وضع يوسف تغريدة تحمل عنوان الأغنية الأصلية "وطني حبيبي" على موقع يوتيوب، غداة بثّ حلقته الأخيرة. لكنّ الإعلامي المصري لم يكن وحده من استلهم "أوبريت الوحدة العربية".
****
في العام ١٩٩٨ أو بعد ثلاثة عقود من صدور "وطني حبيبي"، اجتمع أربعة وعشرون مغنياً من بلدان عربية مختلفة بقيادة المنتج الموسيقي المصري أحمد العريان ليؤدوا "الحلم العربي"، وهي اوبريت من ثماني عشرة دقيقة عرضت على القنوات الفضائية العربية. حاولت الأغنية تقديم نفسها كتكملة للمشروع الغنائي الضخم الذي بدأه عبد الوهاب عام ١٩٦٠. لكن، اذا وضعنا عنوان "اوبريت" وعدد المغنين جانباً، لن نرى اي شبه بين الأغنيتين، خصوصاً في الخطاب السياسي لكل منهما. فعلى غرار المثال الذي يحاول أن يحتذي به، يرتكز "الحلم العربي" على ضمير المتكلم الجامع (حلمنا، عمرنا، يضمّنا). لكن ضمير الغائب "هم" الذي كان مكوناً اساسياً في الأغنية الأصلية، سقط نهائياً من النسخة الجديدة. نحن اذا تجاه ظلم لا يتخذ أي شكل سياسي أو اقتصادي كالاستعمار مثلاً. فلا يمكننا التعرف على ماهية الظلم ولا على مرتكبيه والدوافع التي تحركهم.
نحن في حضرة مجموعة من البشر (نفترض انهم عرب) يعانون من الفراق والظلم ويحلمون بحضن جامع: