كنا قد حللنا في مقال سابق الظروف التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية بالانتخابات في المغرب بموازاة تحليلنا التاريخي لنشأة الأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي الحالي، إذ بحثنا في الظروف التاريخية لولادتها وعرجنا على مشاربها الفكرية والإيديولوجية—إذا كان فعلا ممكنا الحديث عن إيديولوجية حزبية لدى هذه الأحزاب—في ظل نظام سياسي مؤسس الطاعة والولاء في إطار البيعة "التي تطوق أعناق المغاربة"، فتوصلنا في نهاية التحليل إلى أن المخزن المغربي لن يسمح ببروز قوة سياسية تنافسه في شرعيته السلطوية، كما أن شرعيته الدينية في مأمن لأن إمارة المؤمنين تقف سدا منيعا دون أي تغيير في هذا الإطار. بفضل إمارة المؤمنين تستطيع الملكية القضاء على كل من شق عصا الطاعة بالاستناد إلى مبادئ فقهية —تحتاج إلى مراجعة في أحسن تقدير إن لم نقل الإلغاء—أو باللجوء إلى جحافل من العلماء الذين لا يفتحون أفواههم إلا بطلب من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للشكر على نعمة أو لاستنكار سلوك صدر عن المواطنين و"لا يمت للإسلام بصلة"، كاعتبار التظاهر فتنة مثلا. خلاصتنا كانت أن حكومة عبد الاله بن كيران لن تكون الحكومة السياسية،التي يتوق إليها المغاربة للقيام بالإصلاح السياسي الضروري لانتقال ديمقراطي حداثي حقيقي ينقل المغرب إلى عصر الملكية البرلمانية التي تكون فيها السلطة للشعب (المواطنين) بدلا مما يسمى حاليا بالملكية الدستورية والتي تتجمع فيها كل خيوط السلطة بيد الملك (مازلنا نتحدث عن الرعايا)، رغم أن الدستور الجديد أعاد صياغة هذه السلطات الواسعة بشكل ذكي يجعل القارئ غير الواعي يتوهم بأن المغرب أصبح ديمقراطية منذ فاتح يوليو 2011.
لقد نقلت وكالة الإنباء الرسمية عن الناطق الرسمي باسم الحكومة قوله إن الحكومة بصدد الإعلان عن حزمة من ""الإجراءات الملموسة والاستعجالية والجريئة في القطاعات الاجتماعية. بما يستجيب للحد الأدنى لانتظارات المواطنين". لقد تحققت توقعاتنا، فقولنا إن الحكومة الملتحية ستعمل على القضايا الاجتماعية، من تشغيل وسكن وصحة، وتخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، ليس نابعا من الفراغ بل جاء نتيجة تتبعنا للمشهد السياسي المغربي بثوابته ومتغيراته، وكذلك نتيجة فهمنا لطبيعة العلاقة بين الملكية وباقي الفرقاء السياسيين. هذه العلاقة التي كانت غالبا علاقة "توظيف" و"استعمال" ولن تكون أبدا علاقة "شراكة"، فالذين يقبلون بتقلد مناصب في ظل الملكية التنفيذية يقبلون باللعب في هامش المسموح به ولا يضير الماسكين بالسلطة الفعلية في المغرب أن تقوم الحكومة بمبادرات اجتماعية لا تمس الجوهر السياسي للنظام. فلكي تصل العلاقة بين الملكية والفرقاء السياسيين إلى مستوى الشراكة لابد من قطع مسار طويل على المستوى النفسي والثقافي للتأسيس لهذه الشراكة في المستقبل.
و في نظرنا لم يكن المغرب يحتاج إلى انتخابات 25 نوفمبر ولا إلى مظاهرات حركة 20 فبراير لتشكيل "حكومة اجتماعية" للقضاء على الفساد لو توفرت الإرادة السياسية للقضاء على الآليات التي ترعى هذا الفساد وتحميه وتوفر له الغطاء من خلال عدم نزاهة القضاء واستشراء فكرة الوساطة وسمحت بانتشار الانتهازية بشكل وبائي وتحويل جل المغاربة إلى مشاريع ناهبين للمال العام. فلم يعد المغربي يحلم بالدراسة واستثمار الجهد الفكري والجسدي لتحقيق طموحاته بل أصبح هم قطاع واسع من المغاربة هو البحث عن أقصر الطرق أو أيسرها لنهب المال العام، أو الالتقاء بالملك للحصول على رخصة للنقل يعيش من ريعها. فهذه الامتيازات التي ابتدعت في ظروف تاريخية معينة لضمان ولاء "المؤلفة قلوبهم" أدت إلى إضعاف الحس الوطني وعطلت فكرة المجهود والخلق والإبداع وخلقت جيشا من الكسالى ينتظرون المنة والهبات بدلا من العمل على تحسين ظروفهم عن طريق الابتكار والإبداع والفكر المقاول. أما النخب السياسية فأدركت " حجم المنافع المادية التي يمكن أن تحصل عليها جراء انخراطها في العمل السياسي" فحولت القيادات الحزبية أحزابها "السياسية إلى جماعات ضغط أو مجموعات مصالح، لم يعد الحزب السياسي تجمعا من أجل الدفاع عن مشروع سياسي، بل أصبح أداة للحصول على امتيازات مادية ووسيلة لتحسين الوضع الاجتماعي" حسب تعبير الأستاذ محمد ظريف.
كنا سننتظر بعض الوقت قبل التعليق على إخفاقات هذه الحكومة في تكريس عرف ديمقراطي يعطي انطباعا بوجود تغيير في المغرب إلا أن طريقة تدبير الحزب الفائز لمفاوضات تشكيل الحكومة والصمت المطبق لرئيس الحكومة المعين عندما تسربت أخبار تفيد بوجود تفاهمات من نوع ما بينه وبين حزب الاستقلال، وكذلك قبوله باستوزار وجوه لا تنتمي إلى الأحزاب السياسية، بل أسقطت عليها بالمظلات، بالإضافة إلى تسامحه مع التدخلات القوية لرجال الظل في تحديد تركيبة الحكومة ووضعهم للفيتو على بعض الوجوه الحزبية، وتبوأ أفراد من نفس العائلات السياسية التي طالب المغاربة برحيلها من المشهد السياسي لمناصب بارزة في الحكومة، كل هذه العوامل تجعلنا نشعر بأن حزب العدالة والتنمية لم يستطع أن يبني على الشرعية الشعبية التي اكتسبها في الانتخابات لفرض تصوره لقيادة سفينة الحكم، ولا غضاضة في القول بأن الحزب فرط في أهم شرط من شروط نجاحه الشعبي ألا وهو الشفافية والوضوح مع الذات قبل الآخرين، بالإضافة إلى تفريطه في بناء نظام ديمقراطي في المغرب باستسلامه للعب وفق نفس الشروط القديمة للعبة السياسية. الشيء الذي يدل على أن شكل الملعب فقط هو الذي تغير، أما اللاعبين وقواعد اللعب، فمازالت على حالها وتسائلنا في كل وقت وحين بالسؤال القديم الجديد المتعلق بالقيمة المضافة لأية حكومة منتخبة في المغرب في ظل الشروط السياسية القائمة.
الإخفاق الأول: غياب الشفافية أثناء الولادة العسيرة للحكومة
لقد كان منتظرا أن تتشكل الحكومة في ظرف وجيز نظرا لما صاحب انتخاب حزب العدالة والتنمية بأغلبية، أطلق عليها البعض اسم التاريخية، تمكنه من استثمارها كورقة ضغط على بقية الفرقاء السياسيين. إلا أن هذا لم يحدث إذ إن الحكومة لم يتم تنصيبها إلا في اليوم الثالث من شهر يناير/كانون الثاني في القصر الملكي بالرباط. ليمضي بذلك أكثر من شهر بين تعيين بنكيران رئيسا للحكومة في مدينة ميدلت (يوم 29 نونبر2011) وتنصيب حكومته في الرباط. كما أن بين التعيين والتنصيب جرى مجلس وزاري للحكومة المنتهية ولايتها مما يطرح إشكالا حول طبيعة القرارات المتخذة من قبل مجلس منعقد في فترة ما بين حكومتين، واحدة جديدة تتشكل وأخرى انتهت ولايتها، الغريب أيضا في هذا المجلس الوزاري أن رئيس الحكومة الجديد لم يستدع للحضور. ربما يجد هذا تفسيره في أسباب بروتوكولية إلا أن المتتبعين للشأن المغربي قرأوا فيه إشارة من السلطة الملكية بأنها هي الآمر الناهي في البلد وأن ما يقال عن التغيير هو مجرد كلام رهين بسماحة الماسكين بالمؤسسات الفعلية المتحكمة في دواليب السلطة.
فخلال محادثات تشكيل الحكومة، لم نسمع ذلك الكلام الشعبوي الجريء الذي كان يلوكه بنكيران بمناسبة أو بدونها. يمكن إرجاع صيامه هذا عن الكلام المباح إلى سببين: الأول، واجب التحفظ المفروض على كل من عين في منصب سامي. ثانيا: الرغبة في الحفاظ على سرية مفاوضاته مع بقية الأحزاب، و السببان في تقديرنا يضربان في الصميم مبدأ الشفافية الذي يجب أن تتسم به مفاوضات تشكيل حكومة جاءت نتيجة حراك 20 فبراير ونتيجة تغيرات إقليمية أدت إلى سقوط أنظمة بكاملها وتصدع أخرى. فأن يفرض عبد الاله بنكيران على أعضاء حزبه (كما نقلت جريدة المساء اليومية) وعلى نفسه الصمت فيما يتعلق بمفاوضات تشكيل الحكومة، يعد استمرارا لنفس العقلية التي حكمت المغرب منذ الاستقلال والتي تعاملت مع الشعب تعامل البالغ مع القاصر الذي لا يستحق الإخبار بأمور الشأن العام إلا عندما يتفق الكبار، وهذا هذا ضرب للديمقراطية، التي يرنو إليها المغاربة، في الصميم. ناهيك عن كونه يخلق مجالا خصبا لتناسل الإشاعة التي عادة ما تؤدي إلى خلق البلبلة وتشويه الحقائق التي لا تصل إلى الشعب كاملة، ولنا في الخلاف الذي وقع على وزارة التجهيز والنقل بين حزب الاستقلال والعدالة والتنمية مثالا على ذلك. إذ رغم إقرار حزب العدالة والتنمية بأن الاستقلال قبل بوزارة الفلاحة في مقابل وزارة التجهيز والنقل الضخمة فإن حزب الاستقلال نفى ذلك في جرائده الرسمية "العلم" و"L’Opinion" وبقي الجميع ينتظر الخبر اليقين الذي لم يأته إلا بعد أن فك الله عقدة لسان بن كيران وكشف تفاصيل اتفاقه مع حزب الاستقلال.
فكما كتبنا سابقا، فحزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي متمرسان على مفاوضات تشكيل الحكومات لما اكتسباه من خبرة طويلة في دهاليز الإدارة منذ استقلال المغرب سنة 1956 ولا شك أن حزب الاستقلال استطاع نصب فخاخ كثيرة في طريق حزب العدالة والتنمية للظفر بحقائب وزارية " تناسب حجمه السياسي وثقة الناخبين فيه"، مما سهل عليه الحصول على قطاعات وزارية لا يمكن لحزب حل في المرتبة الثانية أن يحصل عليها في بلد ديمقراطي. فتسيير قطاعات المالية والاقتصاد والتعليم تترتب عليها مسؤوليات سياسية يتحمل نتائجها الحزب الذي قاد الحكومة ويمكن أن تكلفه ثقة الناخبين في المستقبل. فأن يخرج حزب الاستقلال ظافرا بوزارات المالية والتربية الوطنية والمهاجرين وكتابة الدولة في الخارجية ليس مجرد صدفة بل دليل على حجم الابتزاز السياسي الذي مارسه الحزب على رئيس الحكومة لجنبي أكبر عدد من الغنائم السياسية. وهنا يجب التأكيد على فكرة الغنيمة السياسية ليست من نسج الخيال بل هي التوصيف الأدق لتهافت الأحزاب السياسية على توزيع المناصب الوزارية على إثر كل "موسم انتخابي" يشهده المغرب. فالخروج إلى المعارضة ليس من شيم العمل السياسي المغربي لأن الجميع يريد حصته من الغنيمة ويعمل من أجلها المستحيل حتى لو اقتضى الأمر الترحال السياسي الذي عدته الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة شكلا من أشكال الفساد السياسي.
النتيجة بطبيعة الحال هي الدخول في مسلسل من الترضيات بين أقطاب المثلث المتدخل في تشكيل الحكومة وهم: سلطة الاقتراح (رئيس الحكومة المعين ومن خلفه حزب العدالة والتنمية) وسلطة التعيين (الملكية) والأحزاب السياسية المشاركة في التحالف الحكومي، أدى إلى نفخ عدد المقاعد الحكومية وانتقالها من الحكومة المقلصة–التي كان وعد بها بن كيران—إلى 31 وزيرا وكاتب دولة، في حين أن دولة مثل إسبانيا شكل فيها الحزب اليميني المحافظ، بزعامة ماريانو راخوي، حكومة من 13 وزيرا فقط، و تعد أصغر حكومة في تاريخ أسبانيا.
الإخفاق الثاني: غياب المرأة من الحكومة، بقاء وزراء السيادة والقبول ب "وزراء المظلة"
لاشك أن المتتبعين للشأن المغربي، وخاصة العارفين بمدى حيوية الحركة النسائية المغربية، صدموا بوجود وزيرة واحدة فقط من بين 31 وزيرا وكاتب دولة في الحكومة الملتحية. فالعمل السياسي النسائي في المغرب لم يكن وليد اليوم ولا وليد العقود الأخيرة، بل إن المرأة في المغرب مشهود لها بمساهمتها في حركة المقاومة. كما أن المرأة (مليكة الفاسي) كانت من ضمن الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944. أما في التاريخ القريب فإن المرأة المغربية انخرطت في الأحزاب السياسية اليسارية بالخصوص وذاقت من آلام الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري ثمنا لنضالها السياسي وسعيا لبناء نظام ديمقراطي يضمن المساواة بين الرجال والنساء. وبالفعل تمكنت النساء من دخول العديد من الحكومات وخاصة حكومتي عبد الرحمان اليوسفي وادريس جطو اللذان عينا وزيرتين في حكومتيهما (نزهة الشقروني وعائشة بالعربي، ثم ياسمنة بادو ونجيمة غزالي طاي طاي) ثم أخيرا حكومة عباس الفاسي التي حققت رقما قياسيا بسبع وزيرات (نزهة الصقلي، ياسمينة بادو، نوال المتوكل، أمينة بنخضرة، لطيفة أخرباش، لطيفة العبيدة وثورية جبران). فأن يمثل نصف سكان المغرب في هذه الحكومة بامرأة واحدة فقط أمر فضائحي ويؤشر على عدة أمور: أولها لا مبالاة رئيس الحكومة وعدم تنصيصه على ضرورة تمثيل النساء من طرف أحزاب التحالف، ثانيا احتقار الأحزاب لمؤهلات المرأة المغربية وتهميشها في هيئاتها التقريرية مما حرمهما من حقها في التمثيل الحكومي، ثالثا ثقافة المحاباة والزبونية والعلاقات العائلية السائدة داخل الأحزاب التي أدت إلى استوزار المقربين كما فعل الوزير الأول المنتهية ولايته،عباس الفاسي، بفرض صهريه كعضوين في الحكومة الجديدة بدلا من اقتراح اسم امرأة باسم حزبه.
بطبيعة الحال يمكن قراءة تساهل رئيس الحكومة في هذا الامر باعتباره نابعا من قناعاته الإسلامية والتي ربما تعتبر البيت كمكان طبيعي للمرأة رغم تصريحه بأن الديمقراطية الداخلية في حزبه سمحت بوجود المرأة الوحيدة في الحكومة في حين أن وجود النساء في الأحزاب الأخرى ضئيل وآليات اتخاذ القرار فيها لا يسمح بتمثيل المرأة. وهذا يدخل في باب التبرير لأنه كان حريا بالوزير الأول أن يشترط على كل حزب اقتراح وزيرة واحدة على الأقل في لائحة المستوزرين.
الإخفاق الآخر لرئيس الحكومة هو نكثه لعهده بعدم قبول وزراء السيادة —نفهم أن بعض الوزراء حزبيون ولكن تعيين كتاب دولة معهم أمر معروف معناه في المغرب—في قطاعات الخارجية، الداخلية والأمانة العامة للحكومة التي ظلت تحت السيطرة الكاملة للمؤسسة الملكية نظرا لأهميتها الاسترتيجية ومحوريتها في أي تغيير حقيقي لطبيعة الحكم في المغرب، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فنتيجة الانقلابات المتعاقبة في سنوات السبعينات قرر الحسن الثاني إلغاء وزراه الدفاع ، كما أن الأهمية الاسترتيجية لوزارة الداخلية لا تحتاج إلى كبير عناء للفهم على اعتبار أنها هي الوزارة التي تتبع لها الإدارة الترابية وأجهزة الأمن والمخابرات وجحافل من المخاتير يحصون أنفاس المواطنين صباح مساء، أما بالنسبة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية فأهميتها تستمد من كونها المشرف على السياسة الدينية في البلد دون إغفال الوعاء العقاري الضخم الذي تشكله ممتلكاتها. بالنسبة للأمانة العامة للحكومة، فهذه الأخيرة معروفة في المغرب "بمقبرة أو ثلاجة القوانين"، فهي التي تتحكم في نشر القوانين والقرارات المصادق عليها في الجريدة الرسمية لتصبح نافذة. لذلك فهي ليست ككل الوزارات بل هي آلية قوية في يدي أية حكومة تستطيع التعجيل بإخراج القوانين وتنفيذها، لذلك كان ضروريا أن يتبوأها شخص يحضى بالثقة لضبط إيقاع نشر القوانين أو تجميدها حسب الحاجة.
فأن يقبل حزب يدعي أنه ديمقراطي بكل هذه التنازلات في وزارات جوهرية لنجاح تجربته في الحكم يعتبر في رأينا تخليا منه عن التفويض الشعبي الذي منحه في الانتخابات الأخيرة وكان سيكون أشرف له لو أشهر ورقة الشرعية الشعبية بدلا من تبرير القبول بالأمر الواقع. ربما قد يجادل مجادل ويقول بأن الداخلية والخارجية في أيدي امحند العنصر وسعد الدين العثماني وكلاهما وجهان حزبيان، هذا صحيح إلا أن استقدام الشرقي الضريس من الادارة العامة للأمن ليكون كاتب دولة في الداخلية يعني أن الوزير الفعلي هو الشرقي الضريس وليس العنصر المعروف بامتنانه للمخزن، ولإدريس البصري بالضبط، على مستقبله السياسي. نفس الشيء يقال على استقدام يوسف العمراني من مقر عمله في برشلونة ككاتب عام للإتحاد من أجل المتوسط وتعيينه كاتب دولة في الخارجية، ونحن نعرف طبيعة العلاقة بين الطيب الفاسي الفهري ومحمد بنعيسى عندما كانا رأسين في وزارة الخارجية.
كما أنه لايمكن تفسير عدم اعتراض الحزب على استقدام بعض الأشخاص وإنزالهم بالمظلة في استمرار للتقليد الذي سنه المستشار الملكي الراحل عبد العزير مزيان بلفقيه. "الانزال بالمظلة" (إلباس االتكنقراط لبوسا حزبيا في آخر لحظة قصد استوزارهم) ممارسة سياسية لا تشجع المواطنين على النضال داخل الأحزاب لأن لكل نضال هدف وإذا لم يكن هذا النضال الحزبي يؤدي إلى تحمل المسؤولية العمومية فإنه يصبح عدميا ويؤدي مع مرور الوقت إلى الطلاق بين المواطنين والسياسة وهذا هو الحاصل في المغرب اليوم.
الاخفاق الثالث: تكريس سلطة العائلات السياسية على الشأن العام في المغرب
العائلات السياسية ظاهرة تستحق الكثير من البحث والدراسة من أجل فهم أسباب استشراء هذه الظاهرة الفريدة من نوعها في المغرب. فإذا كان بلد مثل لبنان بحكم طبيعة نظام حكمه الطائفي حافلا بالأسر السياسية، فإن المغرب بدوره شهد في السنوات الأخيرة تصاعدا ملحوظا في وجود أشخاص من نفس العائلات، وفي بعض الأحيان يحملون نفس الأسماء، داخل نفس الحكومة. فالحكومة المنتهية ولايتها كانت تضم الوزير الأول وزوج ابنته، وابن أخته وزوجة أخ هذا الأخير. لقد أثارت هذه التركيبة الأسرية استياء كبيرا بين المواطنين المغاربة وتم تصريف هذا الاستياء في اللافتات التي حملتها الخرجات الاحتجاجية لحركة 20 فبراير التي طالبت بإنهاء احتكار المناصب العليا من قبل نفس الناس مما حول المغرب في نظرهم إلى ما يشبه مزرعة خاصة للبعض. ولفهم هذه الظاهرة لابد من فهم علاقات المصاهرة القوية التي تربيط بين عائلات تلتقي كلها في وجود السلطة الاقتصادية والسياسية وفي بعض الأحيان الأمنية بين أقطابها. فالزواج يتحول في هذه الحالة إلى وسيلة للحفاظ على المصالح الطبقية وبوابة لقبول أو إقصاء الآخرين إما بفتح المجال أمامهم بالانضمام إلى نادي الكبار أو صد هذه الأبواب في وجوههم بكافة الطرق.
لقد كان متوقعا أن تخلو الحكومة الجديدة، على اعتبار أنها تحمل شعار التغيير، من وزراء من نفس العائلة إلا أنها لم تف بهذا الوعد. فوزير الاقتصاد والمالية ووزير التربية الوطنية صهران للوزير الأول المنتهية ولايته ورشحهما باسم نفس الحزب. كما أن عودة وزراء قضوا سنوات طويلة يتقلبون في المناصب الوزارية، وفي الأمانة العامة لأحزابهم، كوزير الداخلية الذي شغل منصب الامين العام لحزبه منذ سنة 1986 تقريبا، كلها عوامل، تموقع العدالة والتنمية ضمن نفس الثقافة السياسية والحزبية التي أدت إلى غياب الديمقراطية في المغرب وشجعت الانتهازية السياسية التي تنظر إلى المناصب أولا وليس إلى ضرورة التأسيس لثقافة سياسية تنبذ التعاقب على السلطة من طرف نفس الناس ومن نفس العائلات السياسية.
خاتمة:
سيكون سابقا لأوانه الحكم على تجربة حكومة العدالة والتنمية في المغرب إلا أن مسلسل تشكيلها و شكلها وهندستها وطبيعة الأشخاص الذي تحملوا مسؤوليات داخلها ، تمدنا بمعطيات كافية للقول بأن رهان الشفافية ورهان تجديد النخب السياسية وكذلك رهانات تغيير المشهد السياسي المغربي ليصبح مستوعبا أكثر للتغييرات الحاصلة في محيطيه الإقليمي والدولي، لم يتم كسبها. فالمراهنة على كسب الوقت والاحتفاظ بنفس النخب وتطعيمها فقط بالعدالة والتنمية، من أجل خلق وهم التغيير، لا يأخذ بعين الاعتبار "استيقاظ المغرب العميق" الذي مازال لحد الآن ينتظر ما ستحققه الإصلاحات الدستورية الجديدة من وعود خاصة وأن الكثير من المحتجين يصرحون بأن "الإصلاحات لم تذهب إلى الحد الذي أرادوه" وأن الجماهير المحتجة، حسب منظمة العفو الدولية، "تريد رؤية تغييرات ملموسة في النهج الذي تحكم به، وتريد أن ترى من ساموها خسفاً يحاسبون على الجرائم التي اقترفوها ضدها فيما مضى."