Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

في ذكرى بدر شاكر السياب: ذاكرة شعرية تحلم بإبادة اليأس

$
0
0

أتذكر السياب حين أصابُ بالحمَّى وأهذي: إخوتي كانوا يُعدون العَشاءَ لجيش هولاكو، ولا خدمٌ سواهم إخوتي! محمود درويش.

1

لا منأى للشاعر، في هذه الأرض، عن الأذى هذه العبارة التي تغوص عميقاً في سؤال الألم تتقاطع مع ما قاله الشنفرى بلاميته المشهورة (وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى) وعليه يمكن للشاعر أن يبكي أو يتشبث بموته، بطريقة محمد الماغوط وهو يخاطب صديقه السياب (تشبث بموتك أيها المغفل، دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب، فما الذي تريد أن تراه؟)، وهو يرى منظومة القبح والخداع وهي تحتضن الظلام والتدليس والموت، ومن المؤكد أن هذا الشغف بالموت لم يكن عابراً، بل كان مجانياً ودلالياً في آن قصد منه تحقيق الأذى والبؤس والتخريب بين هواجس شخصياته وتجليات الطبيعة الدموية الموروثة، يمكن أن نضيف توقاً بدا واضحاً لدى هذه المنظومات وهو: شهوة القتل، ولكن خيار الموت، عند الشاعر، دفاعاً عن الحياة هو موقف فلسفي وأخلاقي ويندر، على مرّ الأجيال، أن نشهد موتاً من دون تضحية. هذا الكلام قديم كقدم البشرية منذ أن انتقلت من عهود البربرية إلى عصور الحضارة، لكنه اليوم في هذا العراق ليس حديث الماضي والمستقبل فحسب، بل حديث اللحظة الراهنة الشرسة أيضاً، من هنا يبدو السؤال التالي غريباً: هل أصبح الموت اليومي للعراقيين قدراً ومشيئة والحياة نوعا من التطفل .

2

أكره أن أكتب عنه في ذكراه، ربما لكثرة ما تتقاسمه الذكرى مع الآخرين ولذا صنعت له ضريحاً كبيراً في روحي لا علاقة له بما يكتب عنه هنا أو هناك، ضريحاً يكبر معي سنة بعد أخرى وإذا به في غيابه أو حضوره أكبر مما حولي من أحياء، ولعل الاحساس بالوفاء هو الذي يدفعنا، جميعاً، للكتابة عنه وإطرائه بالاوصاف والمزايا المستحقة، بعد أن أصبحت هذه الحياة ذات دلالات ومعانٍ موحية لنا أكثر من أي حياة أخرى، لقد انعكست تفاصيل هذه الحياة، حياته، على مفرداته وألفاظه فصارت القصيدة تتسلّل من بين أصابعه لتستقر في ثنايا جمله وصياغاته اللفظية، وغدت في فترة الشقاء والمرض والجوع منبهاً لدوائه ومعالجة الروح والجسد مما اعتراهما من مخاضات السنين .

هذه هي قصيدة السياب، أكاد لا أجتاز مطلعها حتى أشعر بأنني أغادر عالماً وأدخل آخر، ففي كل كلمة من كلمات القصيدة، كنت أشعر بأنني أمام معجزة البقاء على قيد الحياة وأعجب أيضاً لأن قلب الشاعر مازال نابضاً رغم تسارع دقات الموت والخراب والخوف والجوع والمطر. أنا الذي خبرت عناوين القصائد جميعها، أعرف أن السياب لا يقيم إلا في النصوص الباذخة، أتأمله وكأنني أبحث فيه عن سبب يبرر كل هذا الجنون العراقي الذي أصابنا، وعن الهدنة القلقة مع الحياة والفرح المؤجل، لذلك أدرك شاعرنا أنه من دون ملامسة الموت لا توجد القصيدة الشاهقة بما فيه الكفاية لتسمى شعراً .

لقد صنع السياب لحظة حاسمة في مسار حياته وجعل هذه اللحظة مفتاح عالم القصيدة، والشاعر يدرك ذلك أيضاً بعد أن يتوغل في الشعر، فيرى الجهد الذي بذله كيما يصنع تلك اللحظة وتلك القصائد، لقد اختار الشعر طلباً للشعر لا غير، لأنه الوحيد الذي لا يخذل صاحبه، والذي يستطيع اللجوء إليه في جميع الأحوال والفصول، إنها لحظته الشعرية/الحياتية التي تقاطعت في بؤرتها تجارب وحيوات مديدة وحارة وصاخبة، لحظة تصفية الحساب، اللحظة الأخيرة له في الحياة، حاضراً ومستقبلاً وماضياً، التي تغطي ما ينوف على الجزء الأول من مساحة حياته وصولاً إلى الموت .

يكاد الشعر، بالنسبة إليه، أن يكون المهمة اللغوية الوحيدة بلبوسها الرومانتيكي طوراً وبوشاحها الرمزي طوراً آخر، أما عذاباتها، التي هي عذاباته، فتحتل فيها المركز الروحي تلك النقطة التي امتدت حتى القبر، وهذه النقطة تنبثق منها أصوات لا حصر لها، يذهب بعضها بعيداً في فضاء العراق وبعضها أدنى بكثير أو قليل في فضاء الشاعر، إن هذه الأصوات مهما نأت عن النقطة/الروح تظل مشدودة إليه كما انها تؤوب إليه دوماً، إنها مرتبة الألم الأولى بامتياز .

ما لا نراه في شعره أكثر مما نراه. هذا ما يجب أن نعترف به دائماً، وإذا ما كان الشاعر في معظم نصوصه يبني تأريخه على أساس الاتصال والتواصل من جهة، وعلى أساس التجاوز من جهة أخرى، الأمر الذي يعني أن محاولاته تتصل ببعضها، فإن الشعر كلياً، قد شيد تأريخه على أساس التجاوز، ذلك أن أي تجاوز فني، جمالي وشعري لا بد أن يقاوم في نقطة انبثاق التحول الحياتي ـ الشعري الذي سبقه، ولذلك فإن ما نعرفه عن السياب وشعره أقل بكثير مما لا نعرفه، هذه هي نقطة المفاضلة لو تمعنا جيداً في النظر إلى نقطة التجاوزات الفنية الكبرى، فالشاعر لا يؤرخ إلا لشعره .

3

يقوم السياب من خلال نصوصه الشعرية بتحييد الحياة وهو بهذا يلتقي مع الفرنسي آرثر رامبو حين قال (ان الحياة الحقة في مكان آخر) وهو يعني الحياة في الشعر، غير أن السياب يتماهى مع النص لا بسبب موهبته، حسب، بل بسبب العلاقة الحميمة التي جعلته متماهياً مع النص حتى بعد أن أصبح هو والنص حالة واحدة غير قابلة للفصل، حالة مأخوذة بين ما هو شعري وإنساني، واقعي وأسطوري وما يمكنني قوله الآن أننا نخطئ حين نقرأ السياب من دون أن نكتشف سر هذا التماهي وهذا التجاوز، إنه اقتراح ليس إلا، وعليه لا نتمكن من تحصين أرواحنا إلا بالحزن والمرارة، وهكذا نحن الآن مصابون بحنين جارف لقراءة السياب باسلوب جديد كي نحصن أنفسنا ،أيضاً، من الخراب، من هذا الكم الهائل من الأسوار المهدمة، التي ستتهدم ومن التساؤلات التي أطلقها الشاعر فوزي كريم في هذا المقطع من قصيدته المعنونة (إلى بدر شاكر السياب) التي تحمل في طياتها تشعباً مذهلاً للأفكار والتداعيات الوجدانية وفق أسلوب لغوي أخاذ وتحديداً في هذا المقطع الذي يقول فيه :

أأنا شاعرٌ،

وإذا كنتُ، من يختبر قدرتي

في احتمال الخسارة واليأس؟

تضحيتي حفنةٌ من قصائد أندبُ موتاي فيها

وعلى كاهلي يقفُ النسرُ أحدبَ

أوهنه الطيرانُ بلا هدفٍ

ولذا، أي سورٍ سيهدمُ يا بدرُ؟

لقد جرى تهديم الأسوار فكيف سنسعى إلى نوع من التوفيق والمهادنة ما بين القصيدة الشعرية من جهة، التي هي واقع قائم وصريح، وبين الخراب، لاشك في أن الشاعر فوزي ينطلق من بديهية يعتني بإبرازها أو التنويه بها بصيغة سؤال وهو يقول بتشاؤم لا تشوبه أي شائبة: أي سورٍ سيهدمُ يا بدرُ؟ وهو أمر لا بد أنه حصل وسيحصل .

رغم مرضه العُضال وما جرَّ عليه من مآسٍ وهموم بقيّ السياب ذاكرة شعرية تحلم دائماً بإبادة اليأس مثلما هي ذاكرة تستأنس بهطول المطر، وإنها أيضاً ذاكرة مستعادة تنوس بين الحلم والضوء، الحزن والأمل . ترى أين تمتد ذاكرة السياب الذي قدَّم للعراق المظلم أسطع القصائد؟ هذا هو السياب الذي لا ينفصل حبله الشعري عن العراق، هذا هو السياب الذي يتساءل:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

إيخون إنسانٌ بلاده؟

 

الهوامش :

* الفرح ليس مهنتي ـ شعرمحمد الماغوط /الاعمال الشعرية الكاملة /دار العودة

* لا تعتذر عما فعلت ـ شعر محمود درويش /دار الريس الطبعة الثانية 2004

* آخر الغجر ـ شعر فوزي كريم /دار المدى الطبعة الاولى 2005

* آرثر رامبو ـ فصل في الجحيم

 

*عن جريدة القدس العربي


Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

Trending Articles