بعد مرور شهرين على فضيحة خلية النازيين الجدد في المانيا والتي عرفت بإسم خلية ”تسفيكاو“ وتزايد الشكوك حول تعاون عاملين في جهاز المخابرات مع أعضاء الخلية وغض النظر عن مرتكبي الجرائم، تطفو على السطح الكثير من الأسئلة حول مدى ”يمينية“ مجتمع الغالبية الألماني وعلاقته ”بالآخرالأجنبي،“ العربي أو المسلم. وهل يعني نبذ غالبية الألمان للتطرف اليميني في بلادهم، أن النزعات اليمينية والفكر الإقصائي هما الإستثناء أم أن هذه أعراض لمشكلة أعمق وأكثر تجذراً؟ وهل يقتصر تأثير اليمين المتطرف على شباب عاطلين عن العمل في مناطق المانيا الشرقية سابقاً، كما يرى البعض؟ وهل يعني تعامل الكثير من وسائل الإعلام الألمانية مع الموضوع بتفصيل وكشفها وتوجيهها الإنتقاد لمسؤولين بالأجهزة الألمانية، أن الإعلام على درجة وعي لم يصل اليها بعض ساسة بلاده؟
من الصعب الحديث هنا عن أوضاع العرب والمسلمين ووضعهم في خانة واحدة لأن الهجرات إلى المانيا بعد الحرب العالمية الثانية من دول عربية ودول ذات أغلبية مسلمة (تركيا وإيران) تختلف من حيث أسبابها وسياقتها. فهناك من قدموا كعمالة مهاجرة، كما هو حال أغلبية الأتراك (والأكراد) في الستينيات. وهناك الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين الذين لفظتهم الحرب الأهلية اللبنانية فحطوا في ألمانيا، وفي برلين بالذات. لكن القاسم المشترك بين كل هؤلاء بالرغم من تنوع تجاربهم وخلفياتهم هو نظرة المجتمع الألماني السائدة التي تضعهم كلهم في خانة الأجنبي المسلم، الآخر الزائر، الذي "لا ينتمي" إلى ألمانيا. وليس بذي أهمية إن كان هذا "المسلم" أساساً مسيحياً تركياً أو مسيحياً فلسطينياً أو مسلماً علمانياً أو ملحداً.
ولوضع النقاط على الحروف يتعين أولاً شرح قضية خلية ”تسفيكاو“ التي انكشفت تفاصيلها قبل شهرين بالضبط على الملأ والتي لم يتناولها الإعلام العربي أو العالمي بصورة مفصلة على الرغم من أهميتها .
خلية ”تسفيكاو“ وجرائمها
[النازيون الجدد الثلاثة أعضاء خلية تسفيكاو]
ثمانية اتراك وأكراد، يوناني وشرطية المانية هم ضحايا سلسلة من القتل نفذتها مجموعة من النازيين الجدد (باتت تعرف بخلية تسفيكاو) خلال السنوات العشر الماضية في ألمانيا (تحديداً بين الأعوام 2000 و 2007). وتنسب إلى الخلية، إضافة إلى جرائم القتل، أعمال سطو مسلح على بنوك في ألمانيا كذلك سرقة مواد متفجرة في ولاية تورينغن. وكان قسم من هذه المتفجرات قد إستخدم في هجوم بقنابل محشوة بالمسامير في مدينة كولونيا عام 2004، والذي أدى إلى جرح أكثر من عشرين شخصاً. ووقع الهجوم بالقنابل في منطقة تجارية قسم كبير من أصحاب المحلات فيها من أصول مهاجرة. كما تقول الشرطة الألمانية إن الخلية مسؤولة عن هجوم بمواد متفجرة على محل تجاري لشخص من أصول ايرانية عام 2001 في كولونيا وأدى هذا الهجوم إلى إصابة إبنته بجروح بالغة.
المثير للجدل في الأمر أن عدداً لا بأس به من هذه الجرائم وخاصة جرائم القتل سجلت ضد مجهول، بل أن الشرطة إتهمت في بعض الأحيان الضحايا أنفسهم بالتورط مع، ما أسمته ، مافيات تركية وكردية متحاربة وأن هذه الجرائم كانت أعمال الثأر. أصرت الشرطة على روايتها على الرغم من أن أغلب جرائم القتل كانت قد نفذت بنفس السلاح الذي وجد مع أعضاء الخلية عند إكتشافها في الرابع من نوفمبر المنصرم. حقيقة أن أغلب الجرائم ارتكبت بنفس السلاح وكون أغلب الأشخاص المقتولين من أصول مهاجرة، لم يدفع المحققين خلال عقد بأكمله ليشكوا بأن المنفذين ليسوا من المهاجرين وأن الدافع هو العنصرية وكراهية المهاجرين.
ولكن هل يعني هذا بالضرورة أن المحققين كانوا أيضاً ”متواطئين“ مع المجرمين ضد الضحايا؟ ليس من الضروري أن تكون الإجابة بنعم. بمعنى أن المحققين كانوا يعرفون جل المعرفة بأن الدوافع وراء تنفيذ هذه الجرائم هي العنصرية والنازية الجديدة ولكن هنالك عدة إمكانيات للإجابة ”بنعم” متحفظة على هذا السؤال! فالسكوت وغض النظر عن شيء وخاصة في موقع مسؤول في الدولة هو تواطؤ سواء حدث بوعي مسبق أو بدونه وخاصة عندما نتحدث عن ”إهمال متعمد“ يتكرر.
أولاً إن الصورة ”الذاتية“ لهؤلاء المحققين عن مجتمعهم، أي مجتمع الأغلبية الألماني، بعيدة عن الواقع لدرجة أن العنصرية لا ترد في خاطرهم كدافع محتمل لهذه الجرائم. وإن فعلوا ذلك فسوف يقرون بأن هذه الوحشية العنصرية موجودة في ألمانيا على الرغم من كل الحديث والعمل والتوعية والإعلام حول جرائم الحقبة النازية السابقة. وما يحدث هنا هو نوع من التكذيب الذاتي، ورسم صورة للأشياء التي“ من غير الممكن أن تحدث في ألمانيا وفي يومنا هذا، لأن الحقبة النازية إنتهت بلا رجعة". وإن حدثت فهي فردية وعابرة.“ ولذلك يفضل هؤلاء عدم الربط بين هذه الجرائم وبين منفذيها الذين ينتمون للفكر اليميني النازي بل يسارعون إلى لوم الضحية وتجريمها.
ثانيا إن الخوف من الوقع السلبي لصورة المانيا في الخارج إذا فتح باب الحديث عن إمكانية وجود خلايا فعالة تقتل المهاجرين بدم بارد. فما زال هناك من لا يرى ألمانيا إلا من خلال ماضيها النازي الذي انتهى رسمياً قبل أكثر من ستين سنة. وفي هذا الصدد تشير بعض التقارير التلفزيونية أن هناك ”سياسة غض النظر“ لرؤساء بلديات أو مسؤولين ألمان في مراكز سياسية وأمنية حساسة مفادها التهوين من خطر اليمين المتطرف بل حتى إنكار وجوده والتحدث بدل ذلك عن ”خطروعنف اليسار المتطرف“. ويفيد أحد التقارير التلفزيونية الذي بثته القناة التلفزيونية الأولى (ARD) أنه بالماضي كان يصعب لفرق التصوير والصحفيين الوصول إلى جماعات اليمين المتطرف وتصويرها في الحيز العام أو في حفلات الموسيقى التي تقيمها. واليوم أصبح من السهل نسبياً تصوير شباب يؤدون التحية النازية بصورة علنية. وتقوم هذه الجماعات المتطرفة بمهاجمات مكاتب الأحزاب اليسارية وتضرب وتهدد ” المختلفين“ من الألمان، كذوي الشعر الطويل الذي يعتقد بأنهم ينتمون للتيارات اليسارية. وقلما يلقى المشتكون أذان صاغية تتابع القضية، لأن الشرطة لا تأخذ هذه التهديدات على محمل الجد.
ثالثاً: إن إدعاء السذاجة من قبل المسؤولين هو بحد ذاته أحد مظاهر العنصرية الفجة التي تصل إلى حد تجريم الضحية وغض النظر عما يحدث. فتوجيه إصبع الإتهام من قبل المحققين للضحايا واتهامهم بالتورط بجماعات مافيا والتحقيق مع المقربين منهم في هذا الصدد، ومن ثم تسجيل جرائم القتل ضد مجهول، ما هو إلا دليل على العنصرية البنيوية والمتجذرة إلى لدرجة خطيرة. والسؤال الذي يطرح نفسه أين أجهزة الرقابة على الشرطة؟
من الواضح بأن الدوافع وراء علميات القتل والتفجيرات هي الكره للأجانب أو من يصنف في نظر النازيين الجدد ”كأجنبي”. ويدخل في هذه الخانة العرب والمسلمون والأتراك والأكراد واليهود وغيرهم. ولكن دائرة ”الأعداء“ أو ” الآخر“ لا تشمل فقط هؤلاء، كما وضحت سابقاً، بل أيضاً اليساريين من الألمان وهؤلاء الذين كانوا يعملون مع منظمات ضد اليمين المتطرف وما إلى ذلك من مجوعات. وصادرت الشرطة قوائم، كانت بحوزة أعضاء الخلية وعلى أجهزة حواسيبهم عليها اسماء ما يقارب العشرة آلاف شخص مع عناوينهم وأرقام هواتفهم، وأغلبيتهم من الألمان الذين ينتمون لكافة تيارات المجتمع الألماني وسبق أن عملوا أو كانت لهم مواقف ما ضد اليمين الألماني المتطرف.
ولا بد هنا من التوقف وطرح اسئلة إضافية للوقوف على التعقيدات الموجودة في هذه القضية ودور بعض أجهزة المخابرات الألمانية وفضيحة تورط أفراد منها بصورة ما، بهذه القضية.
[. تظاهرة في مدينة دورتموند ضد اليمين المتطرف كتب على اللافتة" لقد سئمت مدينتا النازيين ". صورة لتظاهرة ضد اليمين في برلين]
ما هو مدى تورط المخابرات الألمانية مع اليمين المتطرف؟
يجب الحديث أولاً عن كيفية إكتشاف الخلية. ثلاثة أشخاص، رجلين وإمرأة تتراوح أعمارهم بين 35 و 38 عاماً، اسسوا تلك الخلية التي تتبنى الفكر النازي المتطرف وباتت تعرف في الإعلام الألماني بإسم خلية ”تسفيكاو“ نسبة إلى القرية التي كان الثلاثة يسكنون بها، إلى حين مقتل اثنين منهم في 4.11.2011 وتسليم الثالثة نفسها للشرطة برفقة محام وهي تلتزم حق الصمت حتى الان وترفض تقديم أي معلومات للشرطة، بعد إضرامها النار بالمسكن الذي كان يعيش فيه الثلاثة بغية إخفاء الأدلة.
سبقت عملية إضرام النار في المنزل، عملية سطو مسلح قام بها الرجلان في الصباح على بنك قريب وسرقة 70 الف يورو من البنك. عند تقصي الشرطة لإثريهما وصلت إلى أحد عربات السكن المتنقلة التي أضرما النار فيها قبل أن يقدما على الإنتحار. ملابسات الإنتحار كذلك غير واضحة. فإفادات الشرطة الأولى قالت إن الرجلين انتحرا بإطلاق النار على نفسهما. ولكن تقرير الطب الشرعي تناقض مع هذه النظرية فظهرت أخرى تقول إن أحدهما أطلق النار على رفيقه ومن ثم اضرم النار في العربة المتنقلة قبل أن يطلق النار على نفسه. وكان الإنتحار هذا بأحد الأسلحة التي قتل فيها هؤلاء ضحاياهم. ولأن المنزل والعربة المتنقلة لم تدمرا بالحريق بشكل كامل تمكنت الشرطة من إيجاد الأدلة والأسلحة التي سرعان ما فجرت قضية ”تسفيكاو“.
وذلك بعد إنفجار في قبو البيت الذي كانوا يقطنون به وأصبحوا منذ ذلك الحين مطلوبين للشرطة الألمانية. وأدى التفجير والقتل الذي حدث في ”تسفيكاو“ إلى تفجر القضية وخروجها إلى الرأي العام. ومنذ شهرين لم يتوقف الإعلام الألماني عن تتبع القضية وطرح الكثير من الأسئلة عن دور الأجهزة الأمنية في مكافحة التطرف اليميني في المانيا، وخاصة عن دور”جهاز حماية الدستور“ وهو جهاز المخابرات الألمانية الداخلية في هذه القضية.
ومن بين الاسئلة التي طرحت في وسائل الإعلام الألمانية عن تضارب في عمل الأجهزة الأمنية وانعدام التنسيق. ومن الجدير بالذكر أن لكل ولاية من الولايات الست عشرة في ألمانيا جهاز مخابرات وأمن خاص بها وهي لا تقوم بالضرورة بالتنسيق فيما بينها، مما يزيد الطين بلة والأمور تعقيدا. ولذلك قامت الحكومة الإتحادية وبمبادرة من وزير الداخلية الإتحادي وبعد إكتشاف خلية ”تسفيكاو“ بإنشاء مركز بيانات من المفترض أن يقوم بالتنسيق بين اجهزة المخابرات الألمانية الداخلية وتبادل المعلومات والترتيب بينها فيما يتعلق بنشاط اليمين المتطرف.
لماذا تغافلت المخابرات الألمانية عما كانت تقوم به خلية النازيين الجدد مع العلم أنهم كانوا مطلوبين لدى الشرطة منذ عام 98؟ وكيف تمكنوا من العيش بالخفاء وتنفيذ كل الجرائم التي ذكرت اعلاه؟ وماذا عن الذين قدموا لهم مساعدات؟ كما لا بد من الحصول على أجوبة واضحة وصريحة حول دور عملاء الأجهزة الأمنية (والمعروفين بالألمانية تحت إسم (V-Leute) داخل المنظمات اليمينية المتطرفة، إضافة إلى البحث عن طرق لحظر هذه المنظمات التي تحرض على الكره والتطرف.
أضف إلى ما ذكر أعلاه، رفض ” جهاز حماية الدستور“ الإفصاح عن هوية عملائه (V-Leute) داخل ”الحزب القومي الألماني NPD ” اليميني، هذا الرفض يطرح الكثير من الاسئلة التي لم تلق أجوبة مقنعة. ويدعي المسؤلون في ”جهاز حماية الدستور“ أنه لا يمكن الاستغناء عن عمل هؤلاء العملاء لأن بعضهم ساعد عن طريق معلومات وفرها لجهاز الإستخبارات في تفادي وقوع بعض العمليات التي كان من الممكن أن تأتي على حياة الكثيرين. وتفيد صحيفة ”سود دويتشيه“ في هذا الصدد أن ”جهاز حماية الدستور“ تمكن، وبحسب معطياته، وبسبب معلومات أدلى بها هؤلاء العملاء من منع إنفجار أربع قنابل كانت جاهزة للإنفجار في مرأب للسيارات في منطقة تورينغين وذلك عام 1997. ولكن الغريب أنه تم إطلاق سراح المسؤولين عن هذه العملية بعد ذلك.
وتتسائل صحيفة ”سود دويتشيه“ في صدد أخر وفي أحد المقالات كيف لم يتمكن أحد من عملاء المخابرات والذين كان قسم منهم على إتصال مع خلية ”تسفيكاو“ من معرفة أي شيء عن جرائم القتل العشرة، هل عملاء المخابرات المزروعين بين جماعات اليمين المتطرق لا يفقهون شيء أم أنهم مشتركون في هذه الجريمة؟
تلاقي جرائم وأعمال المنظمات اليمينية رفضاً وإستنكاراً في ألمانيا وأعتقد شخصياً ومن معيشتي في ألمانيا منذ أكثر من عقد بأن هذا الرفض صادق. ولكن هناك إشكالية مهمة لا يمكن التغاضي عنها وتكمن في نظرة مجتمع الأغلبية الألماني للمهاجرين والإشخاص المنحدرين من أصول مهاجرة. يفيد آخر إستطلاعات الرأي الذي أجرته مؤسسة فورسا في أبريل الماضي، أن نصف الألمان تقريبا ( 49 بالمئة) يعتقدون بأنه يجب توقف الهجرة إلى ألمانيا وبشكل جذري. 38 بالمئة يرون أن ”الإسلام“ يشكل تهديداً لقيم المجتمع الألماني، والمقصود القيم الديمقراطية. كما طالب 87 بالمئة من الألمان، وبحسب إستطلاعات الرأي، الأجانب الذين يعيشون بألمانيا بالإندماج بالمجتمع الألماني وتعلم الألمانية وأيجاد عمل ودفع الضرائب! المثير في هذه ”الطلبات“ هو ما تحمله من صور نمطية وشعبوية عن أن المهاجرين، لا يتحدثون الألمانية وعاطلون عن العمل ولا يدفعون الضرائب. وهنا مربط الفرس في هذه الأفكار الملوثة. ليس من المستغرب إذاً أن يكثر الحديث عن ” سوء تقدير“ الجهات الأمنية الألمانية في تناولها للقضايا المتعلقة بخطورة اليمين المتطرف. وليس من المستغرب أن يتكرر سوء التقدير هذا فتصبح هذه ”سياسة“ سوء تقدير. السكوت والتغاضي عن الجرائم التي تقترف ضد المهاجرين والتقصير المتعمد على مستوى مؤسسات وأجهزة الدولة ينبع من المنظار الجمعي الذي يرى به المجتمع هذا "الآخر" الذي لا ترقى قيمة حياته في نهاية الأمر إلى ما يساوي قيمة حياة كاملة يكون إزهاقها جريمة لا بد من البحث عن مرتكبها. جريمة لا يمكن السكوت عنها أو غض النظر. وقد تستدعى نظرة أعمق وأكثر قسوة، لا نحو "الآخر" بل الذات الجمعية.