ثمة زوايا عديدة يمكن النظر من خلالها إلى ما يسمّيه البعض بالصعود السلفي فى مصر والتي اختصرها البعض في زاوتين إما انتخابية (تتعلق بالوزن البرلماني للسلفيين) أو سياسية (تتعلق بوزنهم التفاوضي حول شكل الدولة ونظامها السياسي). بيد أن هذه النظرة تظل عاجزة عن قراءة الارتدادات الثقافية والسوسيولوجية على الفضاء السلفي فى مصر بوجه عام عطفاً على انخرط ممثليه فى العمل السياسي بشكل مكثف.
وأقصد بالفضاء السلفي ليس فقط الأحزاب التي خرجت من رحم الحركة السلفية المعاصرة (التي تبلورت منذ منتصف السبعينات)، وإنما أيضا ينصرف هذا المفهوم إلى تلك الكتلة الاجتماعية "المحافظة" التي اتسعت رقعتها فى الفضاء العام المصري على مدار العقد الأخير وكان التدّين هو رافعتها الأساسية. أي أننا نتحدث عن ظاهرة ثقافية واجتماعية ذات رداء ديني أوسع من كونها مجرد حركة دينية ذات عقيدة أو إيدولوجية طهورية مغلقة ومفارقة للواقع.
للوهلة الأولى، قد يبدو غريباً أن تجتمع العلمانية والسلفية فى مكوّن معرفي أو ثقافي واحد. فهما بالنسبة لكثيرين ضدّان متناقضان فلسفياً ومعرفياً. والأكثر من ذلك أن كليهما يستمد شرعيته وقوته الابستمولوجية من هذا التضاد الذي كلما تنافر واتسع كلما ترسّخت أحجيته وبرهانه المعرفي. ولكن من الناحية الاجتماعية والسوسيولوجية، أو بالأحرى الواقعية، فإن كلا المفهومين يتشابكان ويشتبكان وقد يتداخلان فى الفضاءين الاجتماعي والسياسي، وذلك دون أن يشعر أياً من الطرفين الممثلّين لهذين المفهومين بهذا التداخل وطبيعته وما قد يفضي إليه. لذا يخطئ من يتعاطي مع السلفية (أو أية حركة دينية أخرى) باعتبارها ظاهرة مفارقة للواقع وأن هذا الأخير لا يؤثر فيها إلا بمقدار غمط الإبرة فى الماء.
وفي مصر فإن ثمة دوائر ثلاث يتقاطع فيها الحقلان السلفي والعلماني بشكل ملحوظ، وهي دوائر السياسة، والمجتمع، والسوق الدينية. وما يحدث فى هذه الدوائر الثلاث منذ ثورة 25 يناير يبدو كما لو كان نوعاً من "العلمنة" التدريجية التي تجري في رحم التيار السلفي فى مصر، وذلك على عكس ما قد يراه البعض نزوعاً نحو الانغلاق والمحافظة.
وهنا لابد من التشديد على أننا لا نستخدم العلمانية كمنظومة عقدية وقيمية (أو العلمانية الكلية بحسب الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري)، وإنما كعملية اجتماعية إجرائية تقوم على المنطق والعقل وحسابات المكسب والخسارة. فيما يخص الدائرة السياسية، يمكن القول بأن ثمة نزوعاً لا تخطئه العين للتيار السلفي باتجاه الانخراط الكلي فى الفضاء العام بمختلف مكوناته (الصراعية والتفاوضية والإعلامية). وناهيك عن كون السياسة (كعلم وممارسة) هي منتج مستورد من الحقل المعرفي العلماني، فإن السلوك السياسي للتيار السلفي لا يختلف كثيراً عن غيره من القوى السياسية من حيث البراجماتية والرشادة في اتخاذ قراراته السياسية. بل الأكثر مفارقة أنه فى بعض الأحيان انتقل هذا النزوع "العلماني" (وفق منطق الربح والخسارة) من السلوك إلى الخطاب. وهنا يمكن "تسكين" التصريح الذي أدلى به أخيراً الدكتور يسري حماد المتحدث الرسمي باسم حزب "النور" السلفي لإذاعة الجيش الاسرائيلي (ويا للمفارقة) حول الموقف من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وتأكيد الحزب على الالتزام بها. فالملفت فى تصريح حماد ليس فقط أنه كان مع "إذاعة الجيش الإسرائيلي"، وهو سلوك لم يقم به أياً من العلمانيين المصريين طيلة العقود الثلاثة الماضية، وإنما أيضا لموقف حزبه الذي بُني على حسابات سياسية محضة تم وضعها تحت شعار "حسبما تقتضيه مصلحة الدولة المصرية".
هنا تبدو مسألة "المصالح والمفاسد" كما لو كانت ذات منطق علماني على الأقل إجرائياً. والمصلحة هنا قد تمتد لتشمل الفرد والجماعة والدولة، وهو ما قد يعني عملياً (في مرحلة لاحقة) إعادة النظر فى تفسير وتأويل النص الديني كيف يتلاءم مع تحقيق هذه "المصلحة". وهنا أيضا يمكن وضع التصريح الأخير لأحد قادة حزب "النور" السلفي حول دعم الحزب للبورصة المصرية (إحدى تجليّات العلمانية الرأسمالية) رغم ما قد ينطوي عليه ذلك من مخالفة لموقف التيار السلفي من قضايا الفائدة البنكية والأسواق المالية .. إلخ.
أما أكثر تجليّات "النزوع" العلماني للسلفيين (وهو ما يسري أيضا على غيرهم من الإسلاميين) فهو الصراع من أجل الحصول على القوة السياسية . فبغض النظر عن "الرداء" الديني الذي ألبسه السلفيين لمشاركتهم في الانتخابات البرلمانية، إلا أن دخولهم بحد ذاته يعس ميلاً لتحويل قوتهم الاجتماعية إلي قوة سياسية تمثيلية يمكن استخدامها كأداة في الصراع السياسي. ناهيك عن كونهم قد قبلوا دخول العملية السياسية وفق شروط اللعبة التي وضعها طرف غير إسلامي (لا توجد مشكلة لدى السلفيين وغيرهم من الإسلاميين في استخدام مصطلحات مثل الدولة والأحزاب والبرلمان والانتخابات والدعاية السياسية وجميعها مصطلحات علمانية المنشأ).
الدائرة الثانية هي علاقة التيار السلفي بالمجتمع. فخلال العقد الماضي اتسمت هذه العلاقة بالتأثير من طرف واحد. فقد استفرد التيار السلفي بالفضاء العام بعدما تم تفريغه من الفاعلين السياسيين والدينيين المنافسين لنظام مبارك، وهو ما أدى إلى نزوح كتلة اجتماعية عابرة للطبقات إلى المساحة السلفية فكراً وسلوكاً ومظهراً. وكانت لغة الخطاب السلفي قائمة على أيديولوجية "دوجمائية" تتعاطى مع الواقع وفق معايير قطعية وفقاً لمقياس "الحلال والحرام" وليس "المصالح والمفاسد" أو ما قد يُسميّه الشيخ يوسف القرضاوي "فقه الواقع". ولكن منذ ثورة 25 يناير وبعد أن "فُك عقال" التيار السلفي، باتت الكتلة الجماهيرية المحافظة أكثر انشغالاً وإقبالاً على السياسة بمفهومها العام (النقاش حول هوية الدولة ومعايير اختيار المرشحين في الانتخابات وصلاحيات البرلمان .. إلخ). وهنا كان لابد للتيار السلفي أن يعيد النظر في خطابه بعدما أصبح هناك طرفاً يرد ويناقش ويحاور وليس مجرد متلقٍ.
بكلمات أخرى، بدأت العلاقة "الوصائية" بين الشيخ والجمهور في التفكك تدريجياً بعدما ارتفع وعي الكتلة السلفية "المحافظة" نتيجة لازدحام الفضاء العام بخطابات سياسية وثقافية متعددة ومتنافسة في مرحلة ما بعد الثورة. لذا فقد بدأ الخطاب السلفي يبتعد قليلاً عن المُطلقات، كي يخوض فى القضايا والمشاكل اليومية التي تشغل بال الجمهور. لذا لم يكن مفاجئاً أن يقدّم مرشحو التيار السلفي برنامجاً انتخابياً يخلو من لغة "الحلال والحرام" ويستخدم لغة "الممكن" وما يمكن تنفيذه لإرضاء الجمهور وليس فقط مجرد "تخديره". ولعل أبرز الأمثلة على تحولات العلاقة بين "الشيخ والجمهور" هو ما حدث لأحد أبرز رموز التيار السلفي (عبد المنعم الشحات) الذي فشل فى الحصول على مقعد برلماني بسبب خطابه الديني الزاعق الذي يكفّر فيه الديمقراطية ويستهزأ بالفن والأدب، وكأنما تلقّى عقاباً من الجمهور. والأكثر من ذلك هو محاولة حزب "النور" الابتعاد عن الشحات حتي لا تتأثر حظوظه الانتخابية فى الجولتين الثانية والثالثة وهو سلوك سياسي براجماتي محض إن لم يكن انتهازياً بحسب رؤية البعض. وهنا نبدو أننا إزاء عملية "ترشيد" وعقلنة ليس فقط للتيار السلفي، وإنما أيضا لقاعدته الاجتماعية التي بدأت تحاسب "الشيوخ" على خطابهم الديني وسلوكهم السياسي.
أما دائرة السوق الدينية فتبدو الأكثر نزوعاً نحو "العلمنة" والتحرر من أغلال الإيديولوجيا. ونقصد بهذه السوق أمرين. أولهما تلك المساحة التنافسية بين الفاعلين الدينيين. وثانيهما، الاقتصاد السياسي للتدّين. فيما يخص الأمر الأول، فإن حالة السيولة الدينية التي جاءت نتيجة للانفتاح السياسي المفاجئ فى مرحلة ما بعد الثورة قد أدت إلى إعادة تشكيل "الجغرافية الدينية" فى مصر بحيث لم يعد هناك تيار أو حركة دينية محتكرة أو مهيمنة، وإنما بات لدينا مزيج من القوى والأحزاب التي تدثر جميعاً بغطاء المرجعية الدينية. وهنا لم يعد المواطن العادي يصنع اختياراته داخل هذه السوق على أساس ديني ما دام الجميع ينطلق من نفس المرجعية، وإنما وفق حسابات سياسية واقتصادية واجتماعية محضة، وهو ما دفع بهذه القوى المتنافسة إلى الابتعاد عن المساحة الدينية وتقديم خطاب واقعي يلبي رغبات المواطنين (أليست هذه حيل العلمانية؟).
أما الأمر الثاني فيتعلق بحجم الاقتصاد "الديني" فى مصر والذي يبدو كجبل الثلج لا يظهر منه سوى قمته. وبعيداً عن حجم الاستثمارات المودَعة فى هذا الاقتصاد "الخفي" والتي تمتد من الملابس والأزياء الدينية إلى السوق الإعلامية الضخمة مروراً بمنتجاتها الناعمة كشرائط الكاسيت والمطابع ودور النشر والمطبوعات الورقية، فإن ما يهمنها هو التجليّات الاجتماعية لهذه الصناعة الرائجة. فمن جهة أولى توجد منافسة ضارية داخل هذه السوق ليس فقط حول المكاسب المادية، وإنما أيضا حول قيمتها الرمزية والمعنوية التي يمكن توظيفها سياسياً فى صناديق الاقتراع والاستفتاءات. ومن جهة ثانية، فإن دخول هذه السوق لا يتوقف على مقدار التأهيل العلمي والمعرفي للشخص، وإنما أيضا على شبكة علاقاته العائلية والاجتماعية فى هذه السوق التي بات يغلب عليها الطابع الاحترافي والمهني. ومن جهة أخيرة، فإن هذه السوق باتت تمثل إحدى أدوات الحراك الاجتماعي لأبناء الطبقتين الوسطي والدنيا وذلك فى ظل انسداد وسائل الحراك الأخرى سواء من خلال التعليم أو المهارة الفردية.
لا تجادل هذه المقال أن السلفيين في مصر سوف يتحولون إلي تيار ليبرالي، وإنما تؤكد أن السلفيين كحركة اجتماعية قابلة للتغير والتحول وإن كانت غير واعية ومدركة له. لذا فإنه كلما ازداد الانفتاح السياسي فى مصر وترسخت عملية التحول الديمقراطي، كلما ابتعد السلفيون عن أطرافهم الإيديولوجية وذهبوا باتجاه المركز السياسي، ما يعني عملياً نزع "الدسم" الديني عن خطابهم و"علمنة" فضاءهم الاجتماعي، وهي عملية معقدة سوف تأخذ بعضاً من الوقت كي تؤتي ثمارها.