يا فاتناً لولاهُ ما هزّني وجدٌ ولا طعمُ الهوى طابَ لي
هذا فؤادي فامتلك أمره واظلمه إن أحببتَ أو فاعــــدل
ماذا يعني أن تعشق السيدة، أم كلثوم، بعد الأربعين من عمرك، تنصت من كلِّ قلبك، تهيم بآهاتها، وتلينُ أحجارُ روحك في البحّة الفادحة؟
الترنيمة، وحدها، تلمسُ شيئاً في قاع نفسك هوى واستقر، ونبرة الألم، تقدح حزناً لم تكن قد تصورته ممكناً ذات يوم.
ها أنت ذا مأخوذ بها، وَلِهٌ، وحزين، تشفّ، مع الأربعين، وتعرف أن كل عاطفة تؤول إلى شجن.
تفكّر، أحياناً، أن علاقتك المستجدة بها، ولما تكمل العقد بعد، عتبة لفراق ما، غربة موعودة، غياب، بذرة موت سقطت في دواخلك، نبتت في الأرض المهجورة على مهل وضربت جذورها عاماً بعد عام، بغير أن تُحسَّ، وها هي فتّقت تربة الجسد، وقد جفّ قليلاً، راحت غضارته، حتى استقامت شجرة، أغصانها الخضراء العفيّة تشقُّ الجلد، تمتد، أوراقها تتمايل مع الصوت الساحر العجيب كلما اشتدّ، وارتفع، وصاح، كلما طاب، وذاب، وتبغدد.
أحياناً تقول: هي كلُّ ما تبقى من ذكرى زمن لم أعش من فتنته الكثير.
حنينٌ، أن تعشق أم كلثوم، بعد كلِّ هذا العمر، اشتياقٌ، وحشةٌ، وعد مكسور، رسالة، نفحة عطر ذاب وتبخّر، لذةٌ مهدورةٌ ليس لاستعادتها من سبيل.
أن تنتبه، بعد عقود، لعاطفة تنبض تحت جلدك، وترى أنك مأخوذ بما لم تعشه معها من أعوام، ذلك يعني أنك تتذكر، تحيا صوتاً موهوباً لزمن ليس هو الماضي بالضرورة، ليس هو الراهن العصي، إنما هو زمن الحكاية حينما تُصبح الحكاية ذكرى، وتصبح الذكرى عزاءً، أو ما يشبه العزاء، زمن يستعاد عبر الصوت، وبالصوت يكتب حكايته مثلما حكيت من قبل، بما في طياتها من مواجع وأحزان.
لا أكتب، بذلك، سيرة عمر مع أم كلثوم، لا أفتح باباً لأعود لفصل أول بعيد، إنما أمنح الصوت، بقماشته الساحرة، حق أن يترنم في ما تبدد من أيامنا، ما تسرّب وتبخّر وذاب، أيام لم تكن أم كلثوم سوى لغز في كل ذكرى له برعم وغصن، هكذا هو صوت السيدة، وهكذا هي حكاية عشقنا، حقيقية كانت أم متخيلة، وقد تفتحت مثل زهرة.
تنتظرنا السيدة هناك، في عطفة خفيفة الضوء، بعد الأربعين، تقف دونما كلال مثلما وقفت على مسرحها طويلاً، بالفستان نفسه، بالخاتم، بالنظرة، بهزة اليد عندما يعلو النغم، وبارتعاشة المنديل، واثقة من قدومنا وقد رقق الزمن أرواحنا، وأخذنا نشفُّ مع التقدم في السن، نلتفت ونتذكر. لقاؤنا مع السيدة في عطفة العمر لقاء أطياف هي أقرب إلى الحياة ولوعتها، هي، على نحو ما، خلاصتها، مثلما كانت ترنيمة السيدة خلاصة عاطفة عاشت طويلاً، عبرت، مثل فرس مجنحة، من عصر لعصر لتستقر بين يديها، وها هي تعود لتحليقها من جديد.
مثل صيحة قطار، أليفة، عميقة، مترقّبة، وهي، إلى ذلك، موحشة، أخّاذة، مفاجئة، هكذا تبدو علاقتي بها اليوم، وليس غريباً أن يأخذنا تولّهنا بالسيدة إلى القطار، ولو على سبيل التشبيه، فالقطار، قطار المعقل بالذات، جنّة من جنان العمر النادرة، حلم يبدأ بمحطة وينتهي بأخرى، حياة بهيجة حافلة، أناس وأصوات وروائح ورغبات وأوقات، لكل وقت طعمٌ وشكلٌ ولون، حكاية الفتى وقد قاسمك غرفة الكوشيت في إحدى سفراتك الليلية لبغداد، زادت من حيرتك أمام عشق الناس لأم كلثوم، تولّههم بها، ووسعّت مالا تفهمه من أمر العلاقة، كان الفتى طالباً في الإعدادية، في مرحلتها الأخيرة أو ما قبلها، على غير أوصاف أهل البصرة، حلو الملامح، طويل الشعر، برونزيه، رياضي القوام، أخذتنا حكاياتنا لعبد الحليم، فاتننا العليل، وأخذته روحه لأم كلثوم، حدّثنا عن تسابقه في عشقها مع مدرّس الرياضيات، حتى صارت هي امتحانه بدلاً من الأرقام والقوانين والمعادلات، يسأله المدرّس عن أغنية بعينها، وعلى الطالب أن يجيب ذاكراً كاتب كلماتها وملحنها، أحياناً يقلب المدرّس اللعبة، يذكر اسمي الشاعر والملحن ويترك لتلميذه أن يصطاد الأغنية، هكذا، وفي الحالين، دخل رامي، وناجي، والقصبجي، وزكريا أحمد، والشيخ أبو العلا، والسنباطي، وعبد الوهاب، والموجي، وبليغ، وبيرم، وقباني، ومرسي جميل عزيز، وشوقي وسواهم درس الرياضيات، يا الهي إنهم يدخلون درساً بعد آخر، بهيآتهم الغريبة، يملأون الصف، وقد طردوا فيثاغورس وأغلقوا من خلفه الباب..الأرقام الوحيدة التي تلعلع بين الطالب ومدرّسه هي 4 مايو 1904، تاريخ ميلاد السيدة، كانا معاً يقفزان برشاقة فوق تاريخ وفاتها، يُغمضان أعينهما وهُبْ يقفزان، كأنهما يردمان هوة ميتتها، يرميان لها، في كل درس، حبل الحياة.
كان الفتى أحد أصغر المفتونين سناً الذين صادفتهم في حياتي، وكان القطار يخبُّ، مع حديثه، في الظلام، منفصلاً عن رمال العراق، صاعداً لدقهلية مصر، لمركز السنبلاوين ـ يا لغرابة الأسماء ـ مع الفجر يُبطئ قليلاً، تخفُّ اندفاعته، وتنقطع أصوات ركّابه، ربما نكون قد أسلمنا أنفسنا لملائكة النوم، لكننا نعرف أننا وصلنا قرية اسمها طماي الزهايرة، وفي نومنا ننتظر أن يتوقف القطار وتنقطع حركته أمام بيت متواضع فيها. هنا إبراهيم البلتاجي، إمام مسجد القرية ومؤذنه، وهنا زوجته فاطمة، فاطمة المليجي، التي ستهب العالم بذرة حشاشتها: أم كلثوم.
حتى ما قبل دخولك الأربعين، بسنوات قليلة ربما، كانت أم كلثوم لغزاً، محض لغز يحوم من حولك، مثل طائر غريب يحطّ فجأة، وفجأة يطير، ضبابه موسيقى غير مفهومة تهوّم، حتى لتبدو أقصى من قدرتك ـ وأنت الفتى الذي عرف الحزن ـ على قبول الصوت، قبولاً خالصاً، والذوبان فيه، وأعلى من إرادتك على رفضه، رفضاً تاماً، ونشّ الطائر الغريب، والخلاص منه.
لم تكن قد استجبت تماماً لمواقيت النغم التي سنّتها إذاعة بغداد، فغدت عُرفاً وطنياً قائماً حتى اليوم: فيروز لساعات الصباح الأولى، وأم كلثوم للواحدة بعد الظهر وأقصى السهرة، سيدتان تتقاسمان أيامنا، لكنك، وبدافع من انكسارات عاطفة صبيانية وجدت نفسك على جرف عبد الحليم، صحبة مجموعة مولهة من الأصدقاء، تأخذكم لوعة أصابعه وهي تموج مع النغم، كنت تتقلّب من حال لحال، مشدوداً للوعة صوته، يغطيك رمل أحزانه، وتغسلك أمواج سعاداته الخاطفة.
كان سحر أم كلثوم حاضراً يناوشنا من بعيد، أغاني الطقوس والمناسبات جعلت منها، لا من أغنياتها فحسب، أيقونة البهجة وبوابتها، ولم يكن الأمر موقوفاً على ارتباطنا بها أو بسواها، كان للطقس والمناسبة حكمهما الذي يلمُّنا جميعاً، على اختلاف من نهوى: عبد الحليم أو فيروز أو فريد الأطرش، أو عبد الوهاب بالنسبة لآبائنا، فلا يحلُّ العيد ولا يكتمل بما يُعلنه جامع (الأبلّة)، شئ ما يظل ناقصاً، غير رائحة الكليجة، والملابس الجديدة، والألعاب التي تُنصب في السوق. أم كلثوم، وحدها، توقد نجمة العيد وتؤكد هلاله بندائها (يا ليلة العيد)، طقطوقة رامي والسنباطي، ببساطة كلماتها وسلاسة لحنها ورشاقته، السنباطي سيكون حاضراً كذلك في فواتح عيد الأضحى، صحبة أحمد شوقي هذه المرّة، لحظة تغني أم كلثوم (إلى عرفات الله).
لم يكن الصباح موهوباً كله لفيروز، كانت لأم كلثوم حصة فيه، ذلك ما سنّته إذاعة بغداد وهي تحيي مستمعيها عبر ترنيم السيدة (يا صباح الخير يا اللي معانا)، الأغنية التي انسابت منذ عام 1948 من فلم (فاطمة)، لتسبح طويلاً في نهر أيامنا، ممهورة بكلمات بيرم التونسي وألحان القصبجي، سأسمعها بواكير الصباح، مع النصف الأول من الثمانينيات، عقد القسوة التي نحتتها حرب طويلة قاهرة، تبثها اذاعات التوجيه السياسي في معسكرات التدريب، وفي الوحدات العسكرية أنى انتقلت، جرياً على عادة اذاعة بغداد، بعد أناشيد سيد النقشبندي ومدائحه، بصوته الفخم الذي يجلجل بين المنام والصحو، يأخذني دفق نوره لوراء ما يُنشد، حيث سماء اللوعة بلا حدود، وستعني لي أغنية السيدة وقتها أكثر مما تعنيه أغنية لفتى، سيتكسر زجاج في صدر الفتى الجندي كل صباح، مع سذاجة الدعوة التي تعلنها الأغنية، وهو يعرف أن لا كروان ينتظرهُ في قسوة أيام العسكر، ولا نسيم.
كانت أم كلثوم، حتى قبل أن تغفو في الثالث من فبراير عام خمسة وسبعين، اثنين رحيلها، ظلاً يطوّف حول حياتنا المنزلية، يدخلها من دون دعوة ويكون فيها، يدور صوتها معنا حيث ندور في المعقل، في المنزل والشارع والسوق، يأتينا من راديو الجيران في كل وقت، وهم يعبرون بمؤشره من إذاعة لأخرى، من صورتها الفوتوغرافية الكبيرة العالية في غرفة الضيوف، من تفجّعهم بموتها، المرّة الأولى التي أكتشفت فيها أن لربطة العنق صلة بالموت كانت مع رحيل أم كلثوم، فقد كان لنا جار يميزه عن جيران المعقل تعلّقه بأم كلثوم و أناقته المفرطة، بنطلوناته الشارلستون المكويّة باتقان، قمصانه السادة أو المزهرة بقماشها الخفيف، وسِتَرَه المقلّمة بياقاتها العريضة وأزرارها الكبيرة اللامعة، وأربطة العنق التي لا عدّ لها، مع رحيل أم كلثوم لم يعد يرتدي منها، لسنوات طويلة، سوى الربطة السوداء، ربطة تعرض مرّة وتستدق أخرى، تحنو في عقدة فرنسية طيعة أو تشتد، لكنها تظل سوداء في كل وقت، عندما أستعيد الرجل اليوم، محتفياً بحضوره بين عشاق السيدة، أتذكر أشياء كثيرة ذابت أو تغيرت، لكنني لا أتذكره بربطة عنق ملوّنة.
مع أم كلثوم يلتقي التاريخان العام والخاص، يتضافران ويتواشجان، يعيدان بلقائهما سرد وقائعنا، الشخصية منها والعامة، يكتبانها على نحو جديد بعد أن يدور الزمان دورته، وتغرق في نهره أحلام وتفسيرات ودعاوى وأفكار، يظل الصوت وحده مئذنة من ذهب.
إن أكثر ما رسّخ أغنيات جيل العمالقة في حياتنا، وأغاني أم كلثوم في القلب منها، هو قدرتها على تدوين لحظاتنا، تثبيتها على نحو ما في الروح والذاكرة. تعيش الأغنيات، بذلك، ترجمتها الفردية في الوقت الذي تتلبس عواطفنا، لتصبح، وهي الأغنيات التي تعيش في الشعور العام، تضئ وتنبض، مفاتيح تواريخ شخصية وعلامات، لن تكون أغنية (الأطلال)، بهذا التصوّر، إلا إيقونة حبي الأول، حب الصبا الأقرب إلى التولّه والقداسة والجنون، وقد أهدتني إحدى صديقات المعقل شريط الأغنية، فوجدت نفسي أعيش ألماً ثلاثي العوالم: أُرفع عالياً بدفق أنغام السنباطي التي أتصوّرها تنبثق من أعلى جبل، تلفُّ وتدور قبل أن تصل إليّ، تهب من حولي وتأخذني فأتنفسها وأعيش دقائق أنغامها، وتسليم قصيدة ابراهيم ناجي بقدريتها الجارحة، وجبروت صوت أم كلثوم، تأخذني، أنا الصبي غضّ العود، وتلقي بي على ضفة إلى صلابة الصخر أقرب، إلى عتق لونه وهول ما يكتم من أسرار، تغيّبني موجة وتعيدني أخرى، ووجه فاتنتي، صاحبة الشريط، يتجلى مع كل موجة وكل نغم.
إنها واحدة من ثمار ستينيات أم كلثوم، وقد دخلت عصرها الذهبي بكامل قدرتها وجلال هيبتها، العقد الذي عاشت الأغنية العربية خلاله واحداً من أكثر عقودها عبقرية ودلالاً.
في لقاء التاريخين، العام والخاص، وتواشجهما، يحدث أن تنقلب المعاني وتتغيّر الدلالات، مثلما غدت (أنت عمري) ـ قصيدة أحمد شفيق كامل التي دسّها محمد عبد الوهاب في درج مكتبه خمس سنوات تقريباً، ولم تخرج إلا برغبة من جمال عبد الناصرنفسه ـ بالنسبة لي، اغنية حرب بامتياز، لا بما تعنيه أغنية الحرب من ذهاب إلى الحماسة والبطولة والفداء، إلى فداحة العمى وهو يسبق الموت وقسوته، بل بما عشته معها من ليال في سواتر شرق البصرة، وقد قاسمني الملجأ أحد عشاق أم كلثوم وهم كثر ـ في كل حضيرة وفصيل وسرية وفوج يصادفك جيش من عشاق السيدة، يجعل سواتر الحرب أخفَّ قسوة ولياليها أقلَّ وحشة وظلاماً ـ كان في الملجأ أكثر من راديو ترانزستور تتنقل مؤشراتها من البي بي سي إلى مونتي كارلو، بحثاً عن أمل بارق عسير، لكنها تصمت، بعد وقت ليس بالبعيد، ويظل صوت أم كلثوم يضئ الملجأ بحثاً عن عينين تعيداننا، نحن فتيان الحرب، لأحلامنا، تعلماننا الندم على ماض لم نعشه.
هل كنا نصالح، مع أم كلثوم، أيامنا، نسامح زماننا، وننسى الشجن؟
إنني أستعيد بذار أم كلثوم في حياتي، أرصد ملامح فتنتها، أُدخل التاريخ الشخصي بالتاريخ العام، أجمعهما في لحظة، وأعرف أننا حينما نكتب عن عشق السيدة، فإننا نناور لكتابة حياتنا، نحتال لتدوين بعض من أوجاعنا، والتقاط تأريخ أرواحنا الذي تصعب استعادته بغير طاقة الفن وقدرته على ملاعبة الزمان..
مع أم كلثوم اكتشفت أن الأمر لا يقف عند حدود أن أحب أو لا أحب..
إنه فصل من فصول حياتنا خارج مسار العاطفة، ومواقيت القبول والرفض، وأبعد منهما..
للعاطفة مع أم كلثوم معنى يتشكل في المنطقة الشفيفة بين السعادة والحزن، بين الفرح المورق بلقاء الحبيب ولوعة غيابه، يسحب وجهاً ملتبساً للعلاقة بين التسليم لعبودية المحبوب ورفضه والاحتجاج عليه، عاطفة تهبّ عاتية من كتاب الصحراء، من أقصى فصوله لوعة وعذاباً.
ربما يكون من الأجدى السؤال عن الكيفية التي عشت بها صوتها، تنفسته، وحييت فيه، لتكون الكتابة عن حياتنا الشخصية بتفاصيلها الخفيّة، عن حبيباتنا وأهلنا وأصدقائنا، عن قسوة سنواتنا، في نص واحد مناسبة تماماً، فنحن، عبر صوت أم كلثوم، ننادي الزمان، نفتح له باباً ونرسم حلماً لم نعش لذاذاته، نُنصت لها، من جديد، وفي دواخلنا ينبض سؤال عن العمر الذي تغنيه، تهتف من أجله، تملؤه كأساً بعد كأس، تهديه لمحبوب، أيُّ عمر، ذاك الذي يبرق في صوتها، وقد التفّت على رحيلها عقود طويلة وعقود؟..
لكن علاقتي بها تظل، على الرغم من كل ذلك، نوعاً من لغز، لغز مضبب يحوم من حولي..
ربما كان مزاج أبي، لا صبابته، هو ما أورثني، بعد عقود، عشق السيدة.
لم يكن أبي يعشق أم كلثوم، ذلك ما ينبغي أن أتأمله، عامل الميناء كان مثل عمّال الكون، لا يختلف عنهم كثيراً، لا بسحنته، ولا ببدلته الزرقاء، ولا برائحته عندما يعود من العمل، ولا بخوفه الموصول، خوف غريب وغير مفهوم بالنسبة لي، رغم التعب الذي يهدُّ بدنه يوماً بعد يوم، يسكر أحياناً، يصلّي ويصوم أحياناً، لكنه لم يكن يعشق أم كلثوم، لم يكن هواه، على كل حال، مع الأغنية.
المرّة الأولى التي دخل جهاز التسجيل فيها بيتنا كانت جرّاء حادثة اصطدام، كان أبي، في أواسط عمره تقريباً، يسوق الدرّاجة النارية وله معها شأن، من الـ MZ، الخنزيرة وأختها، إلى الـ Scooter، الفزبه منفوخة البطن، إلى الـ Traidnt، درّاجة شرطة المرور المخيفة العالية باسمها الرنّان مثل أسماء الطائرات، جميعها بالطبع مُلك شركة الموانئ العراقية، ولم يكن قد ركبها إلا بعدما أصبح ملاحظاً في قسم الماء والكهرباء أوائل السبعينيات، مترقياً، بعد عقود من الجهد والخوف، من عامل تأسيسات مائية، عمل الملاحظ يتسع، وزمنه يبدو أكثر سرعة وآلية من زمن درّاجة العمّال الهوائية. الترايدنت هي التي أدخلت جهاز التسجيل إلى بيتنا، فقد حدث أن صدمتها سيارة مرسيدس، سوداء أو رصاصية، برقم كويتي، وطرحت أبي على الإسفلت، كسرت ساقه اليسرى، وزلزلت عموده الفقري، زارنا صاحب السيارة في عصر صيف، بعد خروج أبي من المستشفى، وكان إيرانيا أبيض الوجه، هكذا أتذكره أو أتصوّره، أغمض عينيّ فأستعيده وأراه، شعره أسود، سرح، كأنه أحد أعضاء فرقة الإنشاد الوطنية. حمل معه، على سبيل الترضية، هدايا عديدة، لم يعلق منها في فمي غير طعم شرائح القمر الدين، وقد رطبتها حرارة صيف البصرة، ولم يتبق منها في ذاكرتي غير جهاز تسجيل بسماعتين كبيرتين، كانت عزيزة جلال، وليس أم كلثوم أوعبد الحليم، تغني داخله ليالي الأنس لأسمهان، كأنها تناديها.
كان مزاج أبي حاداً، مزاج رجل أكثر ميلاً إلى التوحد والعنف، شكّاك، يحدّث نفسه بصوت مسموع، كلماته غير مفهومة، في كل وقت، سواء كان وحده أو وسط جيش من الناس، تلك علامته الفارقة، غير النظارة ذات الإطار البلاستك الأسود الثخين وشاربه المحدّد مثل خيط صوف، وكان يطقطق بأسنانه حينما ينام، أسمعه كأننا مازلنا ننام على سطح بيتنا بترابه المرشوش، كما لو كان يقرض حبلاً طويلاً لا ينتهي. حينما تضيق بوجهه الدنيا، وهي غالباً ما تضيق، يسجن نفسه في الظلمة، كأنه يحاسبها ليلاً على ما جرى في النهار، وحيداً يجلس في ظلمة قاهرة، قبل أن يغيب عن عينيه النور شيئاً فشيئاً وقد فتك به مرض السكري، ويعيش ظلمة ممتدة ليل نهار، ولا يعود يراني، في زياراتي المتباعدة لبيتنا القديم، إلا براحة يده التي رقّ جلدها والتمع ولان، ولا يعرف ولديّ، وقد كبرا قليلاً، إلا من صوتيهما.
أنا الآن في مثل العمر الذي كان أبي يسجن نفسه فيه، لم أركب درّاجة نارية من أي نوع، ولم أجلس في الظلمة وحدي، لكن الصوت المجلجل أخذني في عذاباته سنة بعد أخرى، حتى وجدتني غارقاً فيه. أفكّر في مسألة أم كلثوم التي أعشق، وأراها عراقية الطابع، بصريّة الروح والهوى، زمانها زمان الحلم في البصرة، في شارع الكورنيش، في شارع الوطن، في البرجسية، في حديقة الأمة أو حديقة الأندلس، في ساعات اللوعة والمرارة والعذاب، كم جمّعت من أناس وكم فرّقت، في أوقات السُكر المتباعدة وانتشاءتها الخفيفة العابرة، في لمّة الصداقات التي بددتها الحروب.
[.نشر هذا المقال لأول مرة في "أخبار الأدب" وتعيد جدلية نشره بإذن من الكاتب]