لكي تُسفر شخصية الإنسان عن قيمٍ استثنائية حقاً، ينبغي أن نحظى بالقدرة على ملاحظة سلوكِه على مدى سنوات طويلة. إذا كان هذا السلوك مجرَّداً من كلِّ أنانيّة، وكانت الفكرة التي تقوده كرَماً فريداً، وكان مؤكَّداً أنه كرَمٌ لا يرتجي التعويض من أية جهة غير أن يَسِمَ العالم بآثارٍ بيّنة، فنحن إذن، بلا ريب، أمام شخصيةٍ لا تُنسى.
منذ أربعين عاماً تقريباً، قمت بجولة طويلة سيراً على قدميّ فوق مرتفعات يجهلها السيّاح تماماً، في تلك المنطقة العتيقة من جبال الألب التي تتغلغل في إقليم بروفانس.
يحدُّ هذه المنطقةَ من الجنوب والجنوب الشرقي المجرى الأوسط لنهر دورانس، بين سيتيرون و ميرابو. ومن الشمال المجرى الأعلى لنهر دروم من منبعه حتى منطقة دي، ومن الغرب سهولُ كومتا فينيسان وسفوح جبل فينتو. وهي تشغل كلَّ الجزء الشمالي من مقاطعة الألب السفلية، والجزء الجنوبي من دروم، وجزءاً صغيراً من مقاطعة فلوكوز.
حين شرعت في جولتي الطويلة في تلك القفار، كانت أراضي جرداء رتيبة يتراوح ارتفاعها بين 1200 و 1300متر، وما كان ينبت فيها غيرُ شجيرات الخزامى البريّة.
اجتزتُ هذا الإقليم من أوسع أجزائه، وبعد ثلاثة أيام من المسير ألفيتُ نفسي في عزلة لا مثيل لها. خيَّمتُ قرب أطلال قرية مهجورة. نفد الماءُ لديَّ منذ العشيّة، وكان لابد لي من العثور عليه. هذه المنازل المتراصّة، رغم خرابها، والشبيهة بعشِّ دبابير عتيق، دفعتني للجزم بأنّ ثمة نبعاً أو بئراً قد وجِد هنا ذات يوم. وبالفعل كان ثمة نبع، لكنه جاف. خمس أو ست منازل عديمة السقف، نخرتها الريح والمطر، وكنيسةٌ صغيرة انهارَ برجُ ناقوسِها، كانت كلّها متلاصقةً كحال المنازل والكنائس في القرى المأهولة، غير أنّ الحياة اختفت.
كان يوماً حزيرانياً جميلاً والشمس ساطعة، لكنْ على هذه القفار التي لا ملجأ فيها ولا سقف غير السماء، كانت الريح تهب بضجة لا تطاق. حفيفها بين أفناء البيوت شبيه بزئير وحش أُزعج أثناء التهام وجبته.
كان لزاماً علي أن أطوي الخيمة. وبعد خمس ساعات من المسير لم أعثر على الماء، ولم يكن بمستطاع أي شيء أن يمنحني الأمل بالعثور عليه. أنّى اتجهتُ كان الجفاف ذاته، والأعشاب المخشوشبة ذاتها. ثم بدا لي أنني ألمح في البُعد ظلاً قصيراً أسود، منتصباً. حسبته جذع شجرة وحيدة. وبمحض الصدفة، توجهت إليه. كان راعياً. وقربه ثلاثون خروفاً ترتاح مستلقيةً على الأرض اللاهبة.
سقاني من مَطرته، ثم قادني بعد قليل إلى كوخه الكامن في منحنى رابية. كان يستجرّ الماء بيسرٍ من حفرة طبيعية عميقة الغور، وقد ثبَّتَ فوقها رافعةً بدائيّة.
كان هذا الرجل قليلَ الكلام، شأنَ المنعزلين. لكنك تشعر أنه واثق من نفسه ومطمئنٌّ بهذه الثقة. وكان هذا غريباً في بقعة جرداء من كل شيء. لم يكن يسكن كوخاً، بل منزلاً حجرياً حقيقياً يمكن أن ترى فيه بوضوح كيف أعاد هذا الشخص رصف الأنقاض التي عثر عليها يوم وصوله. السقف صلب ومتماسك. والريح التي تلطمه تنشر على القرميد حفيفاً كصخب الموج على الشواطئ.
كان ترتيبه متقناً، وأوعيته نظيفة وأرضه مكنَّسة وبندقيته مشحَّمة وحساؤه يغلي على النار؛ لاحظت كذلك أنه قد لحيته للتو، وأن كل أزراره مخاطة بمتانة، وأن ملابسه قد رتقت بعناية فائقة تجعل هذه الرتوق غير مرئية.
شاركني حساءه، وحين قدمت له علبة تبغي أجابني بأنه لا يدخن. كلبه الصموت مثله كان ودوداً بلا تذلّل.
اتفقنا ضمنيّاً على أن أمضي ليلتي هنا، فالوصول إلى القرية التالية كان يتطلب مسير يوم ونصف. وكنت، إلى ذلك، أعرف تماماً طبائع القرى النادرة في هذه المنطقة. ثمة أربع أو خمس قرى مبعثرة متباعدة على خواصر هذه الهضاب، ضمن أحراش من البلوط الأبيض على أطراف الطرق الممهَّدة. يسكنها حطّابون يعملون على تحويل الخشب إلى فحم. هي أمكنةُ معيشةٍ شاقّة. العائلات المتزاحمة في مناخ شديد القسوة، صيفاً وشتاءً، تحيا في عزلة تذكي أنانيتها، وتثير فيها طموحاً مفرطاً للفرار من هذه الأمكنة. يمضي الرجال إلى المدينة ناقلين الفحم بعرباتهم، ثم يعودون، فتتصدّع على هذا الدرب المتعرّج المؤبَّد أمتنُ الخصال. أما النساء فيطبخن الضغائن على مهل. يتزاحم الناس على كل شيء، من بيع الفحم إلى أماكن الجلوس في الكنيسة، يتعاركون رجالاً ونساءً، بلا هوادة، على الفضائل والرذائل وعلى الصراع العام بين الفضائل والرذائل. وفوق هذا، ثمة الريح التي تهيّج الأعصاب باستمرار. تنتشر حوادث الانتحار وبائياً، وتتعدد حالات الجنون، وهي غالباً قاتلة.
جلبَ الراعي الذي لا يدخّن كيساً صغيراً وأفرغ منه على الطاولة حفنة بلّوط. شرع يفحصها واحدةً بعد أخرى بعناية فائقة، فاصلاً الجيدة عن الرديئة. كنت أدخّن من غليوني. عرضت عليه أن أساعده، فقال لي إن هذا هو شغله. في الواقع، حين رأيت العناية التي يوليها لعمله، لم ألحّ. كان هذا كل ما تحاورنا به. حين حاز كمية كافية من حبّات البلوط الجيدة، عدّها ووزعّها في أكوام تضم كل كومة منها عشر حبّات، مستبعداً في الآن ذاته الثمارَ الصغيرة أو المصابة بخدوش طفيفة، فقد كان يفحصها بإمعان. اجتمعتْ أمامه مئة بلّوطة سليمة، فتوقّفَ، وآوينا إلى النوم.
منحتني صحبةُ هذا الرجل السلامَ. استأذنته في اليوم التالي أن أرتاح كل النهار في بيته. وجد الأمر طبيعياً جداً. بل لقد خلّف فيّ انطباعاً بأنْ لا شيء قادر على إزعاجه. لم تكن هذه الراحة ضرورية لي على الإطلاق، لكنه أثار فضولي ورغبتُ بمعرفة المزيد عنه. أخرج قطيعَه ووجَّهه إلى المرعى. وقبل أن يغادر غَمَسَ الكيسَ الصغير، الذي يحوي حبات البلوط المنتقاة والمعدودة بدقّة، في سطل من الماء.
لاحظت أنه كان يحمل، كعصا للمشي، قضيباً من الحديد بثخانة الإبهام وبطول متر ونصف. تمشيت ببطء سالكاً درباً موازياً لدربه. كان مرعى أغنامه في قعر أحد الأودية. ترك قطيعه الصغير بحراسة الكلب وصعد إلى حيث كنت أقف. خشيت أن يلومني على تطفلي، لكنه لم يفعل. كان هذا هو دربه. دعاني لمرافقته إن لم يكن لدي ما أفعله. سار على الهضبة مئتي متر. وحين بلغ المكان الذي كان ينشده، غرز قضيب الحديد في الأرض. أحدثَ حفرةً، وضع فيها حبة بلّوط ثم أهال عليها التراب. كان يزرع البلوط. سألته إن كانت الأرض ملكاً له. أجابني بلا. هل كان يعلم من هو مالكها؟ لا. أفترض أنها أرض مشاع، أو لعلّها ملك أناس أهملوها؟ لم يكن يبالي بمعرفة المالكين. هكذا زرع مئة حبة بلوط بعناية فائقة.
بعد وجبة الغداء، شرع في فرز بذوره من جديد. أظن أنني طرحت أسئلتي بإلحاح فقد أجاب عليها. دأب منذ ثلاثة أعوام على غرس الأشجار في هذا المعتزل، وقد غرس منها مئة ألف. نما منها عشرون ألف. كان يتوقع ضياع نصفها بفعل القوارض أو الأقدار الإلهية المباغتة. تبقّت عشرة آلاف شجرة بلوط ستنمو في هذا المكان الذي كان من قبل قاحلاً.
آنذاك اهتممت بمعرفة عمر هذا الرجل. الظاهر أنه قد تجاوز الخمسين عاماً. قال إن عمره خمسة وخمسون . اسمه إلزيار بوفييه. كان يملك مزرعة في الوادي. أتمَّ حياتَه. فقدَ ابنَه الوحيد، ثم زوجتَه. انعزل عن الناس، راضياً العيش ببطء برفقة أغنامه وكلبه. خلص إلى أن هذه البلاد كانت تموت بسبب قلة الأشجار. وأضاف أنه قد قرر، لعدم وجود مشاغل أهمَّ لديه، معالجةَ هذه الحالة.
أنا أيضاً كنت أحيا في تلك الفترة، على الرغم من حداثة سنّي، حياةً منعزلة، وتعلمت كيف ألامس برفق أرواحَ المنعزلين. لكنني اقترفت خطأً. دفعني عمري الفتيُّ لأن أتخيل المستقبل تبعاً لذاتي ولطريقة بحثي عن السعادة. قلت له إن العشرة آلاف بلوطة ستصير، خلال ثلاثين عاماً، رائعة. أجابني ببساطة: إذا منحني الله الحياة، فسأزرع خلال ثلاثين عاماً كثيراً من الأشجار حتى إن هذه العشرة آلاف بلوطة ستبدو كنقطة ماء في بحر.
فضلاً عن ذلك، كان يختبر استنساخَ أشجار الزان وكان لديه قرب منزله مشتل لإكثار بذورها. كانت الأشجار التي أحاطها بسياج شائك ليحميها من الأغنام، رائعة الجمال. كان يفكر أيضاً في زراعة البتولا في الوِهادِ حيث ترقد الرطوبة، كما قال لي، على بعد أمتار قليلة عن سطح الأرض.
افترقنا في الغد.
في السنة التالية وقعت الحرب العالمية الأولى التي كنت مجنّداً فيها لمدة خمس سنوات. لم يكن بمقدور جندي من المشاة أن يفكر في الأشجار. والحق أن هذا الأمر لم يؤثر فيَّ. اعتبرته هواية، مثل جمع الطوابع، ونسيته.
خارجاً من الحرب، وجدت نفسي بمواجهة مكافأةِ تسريحٍ ضئيلة ورغبة عارمة في استنشاق قليل من الهواء النقيّ. وبدون أية فكرة - عدا هذه- سلكت الطريق نحو تلك البقاع المقفرة. لم تتغير المنطقة. غير أني لمحت من بعيد، خارج القرية الميتة، ضباباً رمادياً يغشى الهضاب مثل سجادة. كنت أفكر منذ الليلة الماضية بهذا الراعي غارس الأشجار. قلت لنفسي" إن عشرة آلاف شجرة بلوط تشغل مساحة واسعة حقاً."
لقد شهدت خلال خمس سنوات موت كثير من الناس ولم يكن سهلاً عليّ أن أتخيل موت إلزيار بوفييه، على الرغم من أن واحدنا يحسب، حين يكون في العشرين من عمره، أن الذين بلغوا الخمسين شيوخٌ مشرفين على الموت. لم يمت الرجل. بل كان موفور العافية. غيَّر مهنته. لم يتبق لديه غير أربعة خراف، لكنه بات يمتلك مئة خليّة نحل. تخلّص من الخراف لأنها كانت تعيق عمله في زراعة الأشجار. قال لي( وقد عاينتُ هذا) إن الحرب لم تقلقه. واظبَ على الغرس رابطَ الجأش.
بلغت بلوطات العام 1910 عامها العاشر وصارت أطول مني ومنه. كان المشهد مبهراً. عجزتُ عن النطق، ولما كان هو أصلاً لا يتكلم، فقد أمضينا النهار كله صامتين نجول في غابته. كانت مقسَّمة إلى ثلاثة أجزاء، طولها 11 كم وعرضها الأقصى 3 كم . حين يتذكر المرء أن كل هذا قد نما بفضل يدي هذا الرجل وروحه- من دون الاستعانة بوسائل تقنية- يدرك أن بمقدور البشر أن يكونوا مؤثرين كالإله في مجالات أخرى غير التدمير.
لقد أخلص لفكرته، والشاهد على هذا أشجارُ الزان التي كانت تحاذي كتفيّ وتنتشر على مدِّ البصر. أما أشجار البلوط فصارت كثيفة ولقد تخطّت العمر الذي كانت فيه تحت رحمة القوارض، وبالنسبة للأقدار الإلهية المباغتة كان لابد من الاستعانة بإعصار لتدمير هذا الإبداع. دلّني على أيكاتٍ بديعة من أشجار البتولا التي بلغ عمرها خمس سنوات، أي أنه زرعها في العام 1915 حين كنتُ أحارب في فيردان. نشرها في كل الوِهاد التي اعتقدَ، صائباً، أن الرطوبة فيها قريبةٌ من سطح الأرض. كانت يافعةً ومفعمة بالعزم.
كانت سلسلة إبداعه قد اكتملت. لم يقلق بشأن مهمته، بل كان يتابعها بإصرار. حين انحدرنا عبر القرية، رأيت الماء يجري في جداول كانت من قبل، كما أذكر، جافة. كان هذا التفاعل الخلّاق أجمل ما أتيح لي رؤيته. في العصور الغابرة كانت هذه الجداول الجافة مترَعة بالماء. بعض هذه القرى الحزينة التي تحدثت عنها في بداية هذه القصة أُشيد فوق أطلال مدن غالية- رومانية عتيقة لم تندثر. وقد عثر علماء الآثار خلال تنقيباتهم على صنارات لصيد السمك في أماكن يلجأ سكانها في القرن العشرين إلى الصهاريج للحصول على القليل من الماء.
كذلك نثرت الريح بعضَ البذور. ومع انبثاق المياه، بزغت أشجار الصفصاف والسوحر والمروج والحدائق والزهور من جديد، وعاد معها سبب للحياة.
ولكن التحول جرى ببطء شديد ضمن الإيقاع المعتاد من دون أي يثير الدهشة. الصيادون الذين كانوا يصعدون القمم المنعزلة لمطاردة الأرانب والخنازير البريّة عاينوا وفرة الأشجار ولكنهم كانوا يحسبونها من طرائف الأرض الطبيعية. لهذا لم يمسّ أي إنسان عملَ هذا الرجل. ولو أنهم ارتابوا فيه لأعاقوه. كان عملاً لا يرقى إليه الشك. هل يقوى أي من سكان القرى أو موظفي الإدارات على تخيِّل مثل هذه المثابرة بهذا الكرَم الرائع؟
بدءاً من العام1920 واظبت على زيارة إلزيار بوفييه سنوياً. لم أجده يوماً خائرَ العزم أو مرتاباً. لم تخطر خيبات أمله ببالي. لكنني أظن أنه، لتحقيق مثل هذا النجاح، ينبغي للمرء أن يقهر الشدائد؛ ولكي يكون واثقاً بالنصر بمثل هذا الشغف، لا بدَّ له من أن يقاوم اليأس. لقد زرع، خلال سنة واحدة، ما يزيد عن عشرة آلاف شجرة قيقب. ماتت كلُّها. في السنة التالية، تخلّى عن أشجار القيقب ليستأنف غرس أشجار الزان التي فاق نموُّها نموَّ أشجار البلوط.
علينا ألاّ ننسى، إن أردنا تكوين فكرة دقيقة عن هذه الشخصية الاستثنائية، أنه أنجز كلَّ هذا في عزلة تامة؛ تامة إلى حد أنه فقد، في آخر عمره، عادة الكلام. أمْ تراه كان يظنها غير ضرورية؟
في العام 1933 زاره أحد حراس الغابات مذهولاً. أمره ألاّ يشعل النار في الفناء خشية أن يعرض نموَّ هذه الغابة الطبيعية للخطر. قال له هذا الرجل الساذج إن هذه أول مرة يرى فيها غابةً تنمو من تلقاء ذاتها. في تلك الفترة، كان قد غرس أشجار الزان على بعد اثني عشر كيلو متراً من منزله. ولكي يتجنّب مشقة الذهاب والإياب، وقد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، قرر بناء كوخ حجري قرب غراسه، وهو ما أنجزه في العام التالي.
في العام 1935 حضر وفد حكومي رسمي لمعاينة الغابة الطبيعية، كان يضم موظفاً كبيراً من إدارة المياه والغابات ونائباً منتخباً وفنيين. قالوا كلاماً كثيراً غير مجدٍ. قرروا عمل شيء ما، ولكنه لحسن الحظ لم ينجَز، ماعدا أمر واحد: وضع الغابة تحت حماية الدولة ومنع إنتاج الفحم منها. كان مستحيلاً أن يفلتوا من أسر جمال هذه الأشجار الفتية اليانعة. لقد خلبت لبَّ النائب.
كان لي صديق بين مسؤولي الحراج الذين ضمَّهم الوفد، وقد شرحتُ له سرَّ الغابة. في أحد أيام الأسبوع التالي ذهبنا معاً لرؤية إلزيار بوفييه. وجدناه منهمكاً في العمل، على بعد عشرين كيلو متراً من الموقع الذي تمّت فيه المعاينة.
لم أصادق هذا المسؤولَ سدى. كان يقدر قيمة الأشياء، ويتقن البقاء صامتاً. قدمت لهما بعض البيض الذي أحضرته كهدية، تقاسمنا وجبتنا السريعة وأمضينا عدة ساعات نتأمل المنظر الجميل صامتين.
كانت الجهة التي قدِمنا منها مغطاة بأشجار يتراوح طولها بين ستة وسبعة أمتار. تذكرت مظهر هذه المنطقة في العام 1913: الصحراء... لقد أضفى العمل الهادئ والمنتظَم، ومناخ الأعالي المنعش، والزهد وقداسة الروح، على هذا الشيخ عافيةً مهيبة. كان بطلاً إلهياً. تساءلت كم من الهكتارات سوف يغطيها بالأشجار؟
قبل أن نغادر، طرح صديقي اقتراحاً مختصراً حول بعض أنواع الشجر التي تلائم هذه الأرض ويجدر أن تُزرع فيها. لم يصرّ على مقترحه. قال لي لاحقاً: " سبب عدم إصراري أن هذا الرجل الطيب يفهم في هذه المسألة أكثر منّي." بعد ساعة من المشي- فكّر خلالها في الأمر بعمق- أضاف: " إنه يعلم عن هذا الأمر أكثر من الدنيا كلها. لقد وجد طريقة عظيمة ليكون سعيداً!"
بفضل هذا المسؤول أحيطت لا الغابة وحدها بل سعادة هذا الرجل بالحماية. عيّن ثلاثةً من حراس الغابات للقيام بهذه الحماية وتوعّدهم بالعقاب إذا قبلوا أية رشوة من الحطّابين.
بقي هذا العمل في مأمن من الأخطار إلى أن نشبت الحرب في العام 1939. كانت السيارات تسير بقوة المحركات البخارية، وكانت الحاجة ماسة لأخشاب يُنتج منها الفحم. فشرعوا بقطع بلّوطات 1910، لكن لمّا كانت هذه المناطق بعيدة عن كل شبكات الطرق، تبيَّن لهم أن المشروع سيكون باهظ الكلفة، فتخلّوا عنه. لم يشعر الراعي بشيء. كان بعيداً بمسافة ثلاثين كيلومتراً عن ذلك الموقع، وتابعَ مهمَّته بسَكينةٍ، متجاهلاً الحربَ العالمية الثانية مثلما تجاهل من قبلُ الحربَ الأولى.
في حزيران1945 كان لقائي الأخير بإلزيار بوفييه. كان قد بلغ السنة السابعة والثمانين من عمره. سلكتُ من جديد درب الصحراء. لكن الآن، وعلى الرغم من الخراب الذي خلفته الحرب في البلاد، كان ثمة حافلة للنقل بين وادي دورانس والجبل. واعتقدت أنني لن أتمكن بوسيلة النقل السريعة هذه من التعرف على المواقع التي زرتها في جولاتي الأولى. بدا لي أن خط السير يفضي بي إلى أمكنة جديدة. احتجت إلى اسم القرية كي أتأكد أنني فعلاً في المنطقة المقصودة التي كانت فيما مضى خرائبَ متهالكة. أنزلتني الحافلة في فيرون. في العام 1913، كان يقطن هذه القرية المكونة من اثني عشر بيتاً ثلاثة سكان. كانوا همَجاً، متباغضين، يعيشون على الصيد بالشراك: أشبه ما يكونون جسدياً وخُلقياً بأُناس ما قبل التاريخ. كانت نباتات القراص المتراكمة حولهم تلتهم البيوت المهجورة. عاشوا بلا أمل. ليس لديهم ما يفعلونه غير انتظار الموت: ظرفٌ من النادر أن يهيِّئَ المرءَ للفضائل.
تغيَّر كلُّ شيء، حتى الهواء. بدَلَ الزوابع الجافّة الشرسة التي كانت تتلقّاني سابقاً، هبّت نسمةٌ رقيقة مفعمة بالشذى. صوت يشبه خرير الماء يصدر من الأعالي: كان هذا حفيفَ الريح في الغابات. وأكثر ما أثار دهشتي، أخيراً، أنني سمعت خريراً حقيقياً لماء يتدفق في حوض. رأيت ينبوعاً يفيض بالماء، زُرعتْ قربه شجرة زيزفون يقدَّر عمرها الآن بأربعة أعوام، كثيفة الأوراق، إنها رمز صريح للانبعاث.
من جهة أخرى ظهرت في فيرون آثار مشاريع إنشاء يحفزها الأمل. فقد انبعث الأمل من جديد. رُفعت الأنقاض، أزيلت أجزاء الجدران المهدمة وأعيدَ إعمار خمسة بيوت. صار في القرية ثمانية وعشرون ساكناً فيهم أربع عائلات حديثة العهد. كانت البيوت الجديدة، المطليّة حديثاً، محاطةً ببساتين تنمو فيها، ممتزجةً ومتراصفة، الخضرواتُ والزهور، شتلاتُ الملفوف وأشجار الورد، الكرّاثُ وأنف العجل، الكرفسً وشقائق النعمان. إنها الآن مكان يطيب العيش فيه.
انطلاقاً من هنا، سلكت الطريق سيراً على قدميّ. الحرب التي خرجنا منها توّاً، لم تكن قد آذنت بتفتحٍ كامل للحياة، ولكنّ( ألعازر) غادر القبر. على سفوح الجبال شاهدت حقول شعير وشيلم معشبة، وفي قاع الأودية الضيّقة اخضرَّتْ مروج.
هاهي المنطقة بعد ثمانية أعوام من زيارتي الأخيرة تتألق بالعافية والرخاء. تنهض الآن، في مواقع الأطلال التي شاهدتها في العام1913 مَزارعُ نظيفة، حسنة الطلاء، دالّةً على حياة سعيدة ومريحة. الينابيع القديمة التي اغتذت من أمطارٍ وثلوجٍ اجتذبتها الغاباتُ، عادت للتدفق من جديد. شُقَّتْ أقنية لحفظ الماء. وبجانب كل مزرعة، في أيكات القيقب، فاضت أحواض الينابيع على بُسُطِ النعناع الغضّ. أعيدَ إعمارُ القرى بهدوء. القادمون من السهول ذات الأراضي الغالية الأثمان استقروا في الإقليم، جالبين معهم الفتوّةَ والحركة وروح المغامرة. يصادف المرء في الطرقات رجالاً ونساءً سليمي الأبدان، أما الأولاد والبنات الذين يعرفون الضحك فقد بدأوا يتذوقون نكهة الأعياد الريفية. إذا وضعنا في الحسبان السكان القدامى الذين يتعذّر تمييزهم عن الوافدين الجدد لأنهم يتعايشون معهم بسلام، فإنّ ما يزيد عن عشرة آلاف نسَمة يدينون بسعادتهم لإلزيار بوفييه.
حين أفكّر أن مجهود شخص وحيد، معتمد على مصادره الجسدية والمعنوية البسيطة، كان كافياً لتحويل هذا الإقليم المقفر إلى أرض كنعان، أجد أن الشرط الإنساني رائع رغم كل شيء. حين أقدِّر مدى الجَلَدِ الذي أبدته عظَمةُ روحِه والاستبسالِ الذي طَبَعَ سخاءه، للوصول إلى هذه النتيجة، أحس باحترام عميق لهذا الفلاّح غير المثقَّف الذي أنجز بكفاءةٍ هذا العملَ الجدير بإله.
في العام 1947 توفي إلزيار بوفييه في ملجأ خيريّ في بانون.
[ ترجمة أحمد حافظ]
جان جيونو روائي ومسرحي فرنسي ( 1895-1970) من مؤلَّفاته: جان الأزرق، القطيع الكبير، نشيد العالَم، لِيَدُمْ فرحي.