Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

أمنيزيا

$
0
0

أنا رجلٌ بائس، على أعتاب الخمسين. أقفلُ عليّ باب الحمام ولا أسمح لزوجتي بالاقتراب مني وأنا هناك. أفتح صنابير الماء الساخن، تجري المياه نحو المجرى دون هدى وأستمتع بصوتها وهي تتدفق أمامي. أسند ظهري المتصلب على سيراميك الحائط وأحاول التشبث بأقوى خطوة لي على أرضية الرخام. أتشبع ببخار الماء الساخن حتى أتعرّق. أشعرُ بخفة أكثر في جسدي النحيل بعدما تنفتح مسامات جلدي لتستقبل نوركِ في خيالي. أحرّض كفي المبتلة على استقدامك مبتسمةً وضاحكةً. لا أريدك اليوم حزينة كما اعتدتُ أن أراكِ. بكل ما أوتيتُ من قوة اتشبث بعطركِ وملمس جلدك المتعرق. التقطُ ما يتساقط منك من تجاهل وإنكار تجاهي. أعيدها حيث أريد، إلى قلبك الذي عرفتُ أول مرة ولم يعرفني ولا مرّة. هكذا تولد مدنٌ بيضاء على يديكِ، غير تلك القاتمة التي أعيشها وتعيشينها. سمعتُ قلقكِ وسؤالكِ بعدما سقطتُ على رأسي في آخر مرة قفلتُ فيها على نفسي باب الحمام. في البيت لم ينتبهوا لغيابي إلى أن استفقدني أحدهم. بقيتُ ممدداً اتأمل السقف المحبب بقطرات بخار الماء، أراقبُ حياتي وهي تنسلُ من تحت أظافري رويداً رويداً. حاولتُ أن أنهض وأفتح عيني لأكذّب خبر أنني سقطتُ من النشوى، لكني لم استطع. كان احساساً غريباً بالطيران فوق سحاب حملني للحظة ورأيتكِ هناك في الأعالي ولم أعد أرغب في العودة إلى الأرض. في المستشفى حيث أرقدُ الآن، قالوا لي أنني اصبتُ بلجطة دماغية وفقدتُ جزءً من ذاكرتي. هم لم يقولوا لي ذلك بل سمعتهم وهم يحومون فوق رأسي وأنا ملقى على السرير. أذكر كل شئ قبل الحادث وبعدهُ ولا أذكر ما دون ذلك. عندما سمعتِ خبرَ سقوطي خفتِ أن تكوني ضمن الموجودات التي نسيتها في الجزء المفقود من ذاكرتي، هكذا أخبرني من قال أنه صديق قديم. وماذا لو نسيتكِ؟ هل كنتِ تعلمين حقاً أنني أذكركِ؟

أعرف هذه الوجوه التي تحوم فوق رأسي مثل طيور مجهولة الهوية، ولكني لا اذكر اسماءهم. لماذا يتسارع خفقان قلبي كلما اقتربت مني طفلة وحيدة أراها كل يوم بنظرة المُودِع؟ كنتُ أظنها أنتِ، أو ما أوحى لي الجزء المتبقي من ذاكرتي، وأنني نسيتُ ملامحك للحظة ولكني أذكر تماماً أنني لم أنسكِ.

كل يوم أفتح عيني على صورة مكررة أمامي؛ غيمة صغيرة تعوم في فضاء غرفة المستشفى. لها فم بلا لسان وعينان بلا جفن. أصوات تئنُّ تحت خاصرتي وصافرة انذار القلب الذي لا يتوقف عن عزف نهاية النهار باغماض عينيّ من جديد. الممرضة، أو هكذا أخبروني أنها، بحجابها الصارم وحمرة الشفاه الفاقعة صارت تؤذي مخيلتي كلما هممتُ بتقبيلك بعيداً عنها.

يقولون أنني ابتسم مرةً واحدة في اليوم ولا يعلمون لماذا. يسألونني إن كنتُ أذكر فلان أو فلانة، إن كنتُ أعرفُ ما هذا الشئ؟ يشيرون إلي باصابعهم ويطالبونني أن أعرف كم عدد الأصابع المرفوعة. كنتُ دائماً أحسب أن لي اصبعاً واحدة تتوسط كفي ومرفوعة دائماً نحو الأعلى. عشقتُ أصابعي وهي تعبث بشعركِ على غفلة منكِ حتى تمنيتُ لو كنتُ عبارة عن اصبع لا يفارقكِ. أحاول أن أرى أصابعهم وأعدها. أعرف ما هو العدد ولكني لا أعرف ما هي اصابعهم. يرفعون في وجهي مرآة، تصدمني نظرة الجاهل بي. كيف لي أن أنسى ملامح وبشرة وأنف من لامس وجهكِ ذات يوم؟ يقولون أنني من نينوى، هذا هو اسم المدينة التي ولدتُ ونشأتُ فيها حيثُ التقيتك أول مرة. تعرفين، بل هكذا أذكر أنك تعرفين، كم كنتِ تكرهين المدينة وأهلها. غادرتِها متأخرة دون أن تقرري العودة، مع أنني بقيتُ مكاني حتى لا تتوهي عن عنواني في عودتك العاشرة إليّ. في كل مرة كنتِ تحزمين حقيبتكِ الحمراء وترحلين، كنتُ أودعكِ على رصيف مكتظ بالحياة وأخبرك أنك ستعودين. وفي كل مرّة كنتِ تعودين.

أخبرت من في المستشفى، هؤلاء الذين يعرفونني ولا أعرفهم، أن لا يحاولوا تذكيري في شئ إن لم اشأ. لأول مرة منذ عشرين سنة أشعر بخفة في روحي وقلبي ورئتي المغلفتان بسحاب من النيكوتين القاتم. لم يعد يهمني ما هو تاريخ اليوم، ولم أعد أتفقد ساعة يدي التي لم استغنِ عنها مع تطور التكنلوجيا. لا استفقد هاتفي، أو هكذا أخبروني اسمه بعدما أشرتُ اليه مستفسراً ما هذا؟ لقد تعودوا على نظرتي البيضاء المحدقة في اللا شئ. اللا شئ هنا له لون ورائحة ولكنهم لا يملكون أنفي وعينيّ. تمرّ علي كل يوم امرأة مع بنت، هي بنت أو ما أذكرهُ عن البنات. تجلبُ معها طعاماً خاصاً في علب بلاستيك براقة الألوان. تعجّ ذكريات الروائح في رأسي بمجرد أن تفتح علبةً من العلب. يقولون لي أنه طعامي المفضل. أكلتُ طعاماً غير مفضلٍ لي هنا ولم أشعر بالفرق. كل الأطعمة في فمي سواء الآن. تحسستُ مجسات لساني وأحسستها ضامرة وملساء. لم أشعر باصبعيّ السبابة والابهام وأنا أحاول قرص رأس لساني عسى أن أحرّك فيه ذائقتي للطعام مجدداً. كل شئ طيب الآن، أو كل شئ لا معنى لهُ وهذا طيب. المعنى يخذلني دائماً ويدخلني متاهة الحيرة في تأويل الوجود. والطعام الآن بلا معنى، فهو أطيب منكِ بكونهِ غير متكلفٍ لتأويلهِ مع كل قضمة.  يُشبعني من جوعٍ صرتُ أخافهُ، ولا يتعبني ولا يرهقُ لساني وأضراسي المتهالكة. هناك أسلاك مرتبطة في كل مكان من جسدي، لم أعد أحسّها، أسلاك تتدلى وتتراقص بحسب حركتي على السرير أو حركة قلبي كلما مسّهُ شيء عابر من الذاكرة المفقودة. تلحُّ علي المرأة التي تزورني أن أتذكرها، ابتسم وأحك رأسي بشعرهِ الكثّ وأحس بكائنات غريبة تمشي على رقبتي وخلف أذنيّ من الحرج. لا أعرفها ولا أعرف لماذا لا أريد تذكّرها هذه اللحظة. كنتُ خائفاً من تذكر أي شئ ظناً مني أنني سأفقد بالمقابل ذاكرتي التي حافظتْ عليكِ عذراءَ من النسيان.

يلعبُ الولد الصغير بقربي بسيارتهِ الألكترونية، أعرف ما هي السيارة وأعرف ما هي اللعبة ولكني لا أعرف الولد. ينادي بابا، فالتفتُ يميناً ويساراً، ربما هو يشير إلى شئ ما بقربي. تجلس المرأة قبالتي طويلاً، تريني ألبوم صور أرى فيها الرجل الذي كان في المرآة وهي والولد والبنت وأناس بتُّ أراهم تباعاً في المستشفى. لم أقل لها يوماً: أسف لا أتذكركِ. أردتُ أن أبقي هذا الفراغ يدور حول نفسهِ بالبحث عن مركزهِ حتى يدوخ ويعتقني من قيوده.

في اليوم التالي، أعرفُ أنه تالٍ لأنني أنام وأصحو على الصورة ذاتها فوق رأسي، يأتي الطبيب مع مساعدتهِ. تتفحص الممرضة جميع الأسلاك والأنابيب المتدلية من ثقوب جسدي. تستبدل كيساً فيه سائل أصفر كنتُ أشعر بهِ عندما تحركهُ من تحتي. جلس الطبيب قليلاً يدوّن ملاحظاتهُ عن حالتي. تناول جهاز فحص ضغط الدم، هكذا اسمه، ربط ذراعي اليسرى بهِ بقوة. بدأ يضخ الهواء ويضغط بشدة على ذراعي حتى أحسست أن عضلات يدي ستنفجر. كنتُ أبلعُ ألمي واستمتع بهذا الهواء الذي يقتلني ولا ينعشني. وهو يحاول أن يخفف من ضغط الهواء شعرت بنبضاتي وكأنها تفرّ تباعاً ولا ترغب بالعودة من جديد إلى دمي. أعاد الفحص ثلاث مرات ليستقر ويتأكد من النتيجة، وفي كل مرّة كنتُ أشعر أنني عاجز عن التنفس للحظة.

- لديكاضطرابفيضغطالدم،عليناأننراعيمجدداًحميتكالغذائية،وإلاستسوءالأمور.

قال الطبيب وهو يهم بالجلوس،

 ثم طلب من الممرضة أن تأخذ عينةً من دمي لاجراءات فحوصات جديدة. أثناء استعداد الممرضة لأخذ العينة كان يرغب الطبيب أن يحدثني فيما أحسه، وهو يدون ملاحظاتهُ في ملفي بدأ يطرحُ علي بعض الأسئلة. كنتُ استمع لأسئلتهِ ولكن بالي كان مشغولاً بالممرضة ومحاولاتها في إيجاد وريد مناسب لتأخذ من دمي ما تشاء.

- كيفتشعراليوم؟

سألني الطبيب

- لاأعرف،لاأشعربشئمحددتقريباً

أجبتهُ بثقة عمياء بهذا الشعور باللا شئ.

- هلتذكرتَاليومشيئاًجديداً؟أوتعتقدأنهجديد؟

- نعم،أظنُأننيوجدتُأخيراًالطعامالذيلمأنسَ مذاقه

- وماهو؟

- مَنّالسِمَا

نظر إلي بنصف ابتسامة على طرف فمهِ وقال:

- منّ السمَا؟هلتذكرأنككنتَ تحبُ هذاالنوعمنالحلوى؟

- لا،لاأذكرأننيكنتُأحبهُ، كلماأعرفهُأننيمتأكدمنمذاقهِإنتذوقتهُالآن.

- هلتذكركَالحلوىبشئ؟تساءل الطبيب ثم أردف

- شئما،مناسبةأوشخصأوحالة؟حاولأنتتوقفعندمنّالسماقليلاًربماتتذكرشيئاًيوصلنالشئآخر. 

توقفتُ بالفعل عند هذه الحلوى البيضاء ولماذا أذكرها هي فقط دون باقي الأطعمة؟ كاد غشاء رقيق يتفتق في وعيي لماذا أذكرها وكنتُ سأخبر الطبيب بأول شئ خطر في بالي، ولكن دخول المرأة التي تزورني كل يوم سمّر الكلام على لساني. لماذا أحسستُ أن ما سأقولهُ للطبيب عما أذكره عن منّ السَما سيؤذيها؟ صمتُ قليلاً تحت مراقبة الطبيب لجوابي القادم ونظرة المرأة المترقبة ثم قلتُ:

- لاشئمحدد،أتذكرطعمهُفحسب.

ذهب الطبيب ومعهُ الممرضة على أمل أن يعود إلي في اليوم التالي. جلست المرأة أمامي كعادتها وسألتني الأسئلة المعتادة عن حالي وكيف أشعر. لم أعد أنسى اسئلتها وربما لن أنسى أي شئ عن مراحل ما بعد الفقدان. بقيتْ صامتة هذه المرّة على غير عادتها. لم تعد ترغب بتذكيري بشئ أو محاولاتها الحثيثة على شحذ ذاكرتي لاتذكرها هي على الأقل أو البنت والولد. تذكرتُ للحظة أنني أنا من طلب منها هذا ولسبب أجهلهُ استغربتُ رضوخها لرغبتي. لماذا كنتُ أتصور أنها صعبة الرضوخ؟

…. 

 أسمع صوت قطرات مياة تسقط من مكان ما، وأتذكرُ أنني في مستشفى وليس حمّام بيتي. تكرر الصوت مثل دقات ساعة جدارية. استجمعتُ قواي كي أقوم من السرير واتمشى قليلاً في أرجاء الغرفة. قالوا أنهم يدفعون المال الكثير للمستشفى من أجل حجز هذه الغرفة الجيدة. شعرتُ بنخسة ابرة الكنيولا في يدي اليمنى وكأني لأول مرّة أعرفُ أن لي يداً. جسدي كان خفيفاً جداً وأنا أحاول الوقوف على ساقيّ. انتعلتُ نعلي الموضوع بعناية قرب السرير وحاولت أن أجمع الأنابيب المتدلية مني كلها في جهة واحدة على الحمّالة المعدنية المتحركة. بدأتُ أخطو أولى خطواتي وأنا اسحب الحمّالة المعدنية معي أينما ذهبت. توجهتُ نحو النافذة الكبيرة وأكتشفتُ أن مقبض النافذة فوق من الأعلى. لم استطع فتحها وبقيتُ متسمراً أمامها لدقائق أجرب جاذبية جسدي على الأرض وأشبع رأسي ببياض السماء أمامي. وكأن هذا البياض الذي أحلقُ فيه منذ سقوطي ليس كافياً لأقتنع أنني وصلتُ مبتغاي من النسيان. أنظر إلى ملابسي البيضاء فتضحكني بقعة دم منسية على طرف ثوبي. بدوتُ مثل عروس عربية عذراء في ليلة زفافها. أذكر تماماً بياض فستان العروس وبقعة الدم ولا أتذكر أنني كنتُ مع واحدة يوماً. المرأة التي تزورني تقول أنها زوجتي، كيف أذكر ما هي العروس وما عذريتها ولا أذكرها؟ أرهقني الضوء قليلاً وأنا أحاول الضحك من هذا التشويش المُرعب في رأسي. ابتعدتُ من النافذة بعد شعوري باعياء عابر. سارعتُ بالجلوس على طرف السرير مستنداً على يدي اليسرى. لا أعرف كم طال جلوسي بتلك الوضعية المتأملة أرضية الغرفة النظيفة. الروائح هنا أيضاً ليست سيئة كما أذكرها في باقي المستشفيات. فلا عجب أن يدفع من يعرفني هذا المال من أجل ابقائي في مكان جيد.

طال انتظاري كثيراً، أو هكذا أحسست. لم يدخل عليّ أحد طوال جلوسي على السرير. لا الطبيب ولا الممرضة ولا المرأة التي تعودت زيارتي كل يوم مع البنت والولد. قمتُ لأكرر مشيتي القصيرة نحو النافذة. أحسستُ هذه المرة أنني أزحف ولا أمشي. بدأ خدر بضربات قلب خفيفة يسري في أطرافي. كنتُ أحسبهُ بسبب الاستلقاء الطويل على السرير. لكن خطواتي بدأت تثقل أكثر كلما اقتربتُ من النافذة. توقفتُ في منتصف الطريق واحتفظت بمسافة أقرب من السرير منهُ إلى النافذة. كنتُ أخشى السقوط في أية لحظة بسبب ثقل أطرافي وضربات قلبي المتسارعة. عاد صوت قطرات الماء المتساقط إلى مسامعي من جديد، هذه المرة رفعتُ رأسي عالياً لاتفقد أن كان هناك شرخ في السقف ويتسرب منهُ الماء. ولكن أية مياه ستتسرب من سقف غرفة في مستشفى! بدأ الصوت يزداد كلما اقتربتُ من النافذة. حاولتُ أن اسرع بخطواتي أو علي الأقل اسيطر عليها من خلل في التوازن. كان بيني وبين النافذة خطوتين لا أكثر ولم استطع إكمال المسافة. ولأن السرير صار أبعد فقد آثرتُ أن استند على الحائط القريب. وبينما أحاول أن استعيد تنفسي الطبيعي بعدما ارحتُ ظهري على الحائط، تحول صوت تساقط قطرات الماء إلى صوت جريان مياه. أمسكتُ بيدي الحمالة المعدنية وابعدتها قليلاً عن قدمي بعدما أحسست بسخونة تحت نعلي. شاهدتُ المياه الساخنة بابخرتها تتدفق من تحت رجلي من حيث لا أدري. جريان المياه جعل من خطواتي مستحيلة في الغرفة لأصل إلى زر الإنذار المثبت على رأس السرير. تفقدتُ عن بعد إن كانت المياه تتسرب من حمام الغرفة ولكني وجدت أن المياه قادمة من تحت النافذة المطلة على حديقة خلفية للمستشفى. لا شئ وراء هذه النافذة سوى الفراغ الذي يربطني بالأرض على ارتفاع خمسة طوابق. صرتُ ادورُ بناظري حول الغرفة لأفهم ماذا يجري. وقعت عيناي على صحن ملئ بمنّ السمَا موضوع على الطاولة المعدنية البيضاء قرب الباب. لا أذكرُ أنني رأيتُ الصحن عندما استيقظتُ في الصباح. ترى من أتى بها إلى غرفتي وأنا نائم أو مخدّر أو في غيبوبة إرادية كعادتي؟ لن استطيع تناولها حتى لو كنتُ أذكرُ مذاقها، فالطبيبُ نبهني علي الالتزام بنظام غذائي صارم بسبب ارتفاع ضغط الدم. لماذا إذن جلبوها لي وهم يعرفون أنني لا استطيع تناولها! ربما هي المرأة التي تزورني أو ربما الطبيب وضعها هناك علّها تساعدني في استعادة بعضاً من ذاكرتي. وقفتُ طويلاً على وضعيتي وبدأت اشعر بارتفاع المياه فوق قدميّ. مياه ساخنة تشعرني بالدفء وتوسع شراييني وتباطئ ضربات قلبي على غير العادة. بدأ الخدر يتسرب إلى أطرافي ثانيةً ولم أخف أن أفقد وعيي أو أصاب بالشلل. كلما أحسستُ بتوسع شراييني كلما تقلصت عندي الرغبة في التفكير بوضعي وأنا عالق بين المياه وسقف الغرفة الألمنيوم باضاءاته البيضاء. بدأت المياه تصل نحو الباب وتوقفت هناك. كان لدي أمل في أن تفيض المياه خارج الغرفة كي ينتبه أحد المارة من الممر ويدخل الغرفة. لكن المياه ما أن وصلت الباب حتى توقفت هناك وغيرت مجراها نحو النافذة في حركة متلاطمة أحسستني أنني أغرق في بحر هائج. أخاف البحر مذ ركبتهُ أول مرّة في محاولة أولى للهجرة ولقائكِ خلف البحار بعدما غادرتِ. السفينة التي أخذتني لم تصلني إليكِ لقصر بالي في المسافات، وأنتِ كنت تريدنني أن ألاحقك من مدينة إلى مدينة. أوصلتني السفينة إلى حانة تركية في استنبول وصرتُ أشرب وأشرب كمن كان يريد أن يرتوي لمؤونة سنة قبل عودتي إلى نينوى من جديد. وعندما عدتُّ كان أول شئ أفعلهُ بعد رمي حقيبة السفر هو الدخول إلى الحمام كما اعتدتُ أن أفعل بعد كل لقاء لا يتمُّ بيننا.

أفكّرُ في الطبيب الآن وأنا أحاول الانتشاء لأقصى حد بالمياه الساخنة تحت قدمي لأقول لهُ أنني صرتُ أذكرُ أشياء كثيرة. كانت محاولة ناجحة منكَ بوضع طبق منّ السمَا هناك أمامي وفتح صنابير المياه كي أعود إلى المربع الذي اسقطني في الحمّام. خفُتَ صوت جريان الماء وصارت الأصوات خارجاً أهدأ وأوضح. صرتُ أسمع خطوات أقدام قادمة نحو الغرفة. طقطقات كعب نسائي في الغالب. لمحتُ في وقفتي ظلاً يتحرك تحت فتحة الباب. حاولتُ أن استند جيداً على الحمالة المعدنية المرافقة لي وأنا متكئ على الحائط. تهيأتُ لدخول الممرضة ربما أو المرأة التي تزورني. المياه تحت قدمي أصبحت ساكنة ورائقة إلا من بعض التموجات الرهيفة والتماعات شعاع الشمس المنعكس عليها عبر النافذة. لم أعد ألمحُ قدميّ ولا أرضية الغرفة وكأني واقف على سطح بحيرة عميقة. بدأ مقبض الباب يتحرك ببطء وبدأ الباب يُفتح شيئاً فشيئاً. شاهدتُ كيف أزاحت حافة الباب المياه من طريقها وكأنها تزيح طرف بساط. دخلت عليّ امرأة، ترتدي طقماً أسود بتنورة يصل طولها حتى الركبة. تجر وراءها حقيبةً سفر حمراء. أغلقت الباب وراءها ومع اختفاء ظل الباب في الخارج عادت المياه الى مستوى حافة الباب من جديد. كانت ترتدي حذاء ذا كعبٍ عالٍ، أكاد أستشفُ أنه بطول اثني عشر سنتمتراً. هكذا كنتِ أنتِ أيضاً تحبين علو كعب أحذيتكِ. أخبرتيني عنها ونحنُ نتجول لأول مرّة في شوارع بغداد بعيداً عن الأسلاك الشائكة حول بوابات نينوى.

وقفت المرأة قربَ طاولة طبق منّ السمَا. وضعت حقيبتها جانباً ثم أخذت حبة من الطبق. تقدمت نحوي بخطوات لا تشبه خطوات كائن بشري يمشي على أرضية غارقة بالمياه. المياه لا تتحرك تحت قدميها ولا تصدر خطواتها الأصوات. اقتربتْ أكثر حتى صرتُ أشعر بأنفاسها قرب أذني. لم أفهم ملامحها جيداً. هي واضحة مثل هذا الماء الصافي تحت قدمي ولكنهُ رغم ذلك يحجب عني رؤية قدميّ وأرضية الغرفة. رفعت يدها نحو فمي وبدأت تمسح طرف شفاهي بحبة منّ السِمَا. كدتُ أشم رائحة طحن اللوز والفستق والطحين والسكّر كلهُ يدور في مطحنة ذاكرتي.

- اقضمها..  

قالت المرأة وهي تحاول فتح شفتي المُبلمتين من أثر الدهشة بحبة منّ السمَا.

قضمتُ شيئاً منها وانتشيت بذرات الطحين التي لوثت أطراف شفتي. تلك الحلاوة الذائبة على لساني وفي روحي أعاد إحساسي بقرصتي لطرف لساني مجدداً. مررتُ لساني على أطراف فمي لالتقط الحلاوة والطحين لآخر ذرة في أقصى زواية فمي. كلما رفعتُ عينيّ كي أنظر في وجهها لا أرى شيئاً. لم تكن بلا وجه، بل كان لها وجهاً وشعراً أسود طويلاً ولكني لا استطيع أن أراها. بكل بساطة شعرتُ بها غبار يلفعني مثل ذرات طحين منّ السمَا على وجهي، أحس بها ولا أراها.

كل شئ الآن صار لهُ معنى. المياه تحت قدمي، طعم منّ السمَا في فمي، الحقيبة الحمراء بدون رصيف رحيل، الأسلاك المتدلية مني وكيس البول، الحمالة المعدنية التي رافقتني مذ فقدتُ ظهري في ذلك الحمّام.. وهذه المرأة ذو الرداء الأسود والحذاء ذو الكعب العالي. كل شئ أصبحَ له رائحة ومعنى الآن وصرتُ أخشى الوقوف أكثر أمامها ألّا يرهقني التأويل.

أحاول تجاوزها والوصول إلى الباب مجدداً أو إلى زر الإنذار قرب سريري. كلما حاولتُ الاقتراب من الباب تقدمت الحقيبة نحوي في ميلان مباغت للغرفة نحو النافذة. كانت المياه أيضاً تغير مجراها مع ميلان الغرفة نحو النافذة حيث بقيت المرأة واقفة تنظر إلي. نزعتُ الأسلاك من يدي ومن جسدي، أحسستُ بوخزة غريبة في رأس قضيبي. دفعتُ الحمّالة المعدنية بعيداً عني. كنتُ أريد أن أتذكر أن لي ساقين وذراعين استطيع الاتكاء عليها. حاولت جاهداً مقاومة ميلان الغرفة ونظرة المرأة والتشبث بقوة بخطواتي على أرضية الغرفة من أجل أن أصل الباب، لكن التماع شعاع الشمس أمامي على الماء ضربَ عيني بومضة مباغتة حجب عني رؤية الباب. وجدتُ نفسي بعدما زلقت وأنا واقف بثبات على ساقي بقربها تتوسطنا الحقيبة الحمراء. أخذت المياه مجراها نحو النافذة واختفت شيئاً فشيئاً بأمواج بيضاء صغيرة كانت تنحصر أحياناً في زاوية الحائط. بقيت المرأة تنظر إلى ويدها ممسكة بإحكام بمقبض الحقيبة. نظرتُ إليها هذه المرة طويلاً لربما تظهر لها ملامح أعرفها أو أراها كما أتوهم أنني لا أراها. اصطدمتُ بنظرتها الساكنة وزجاج عينيها المغبرتين وفمها المفتوح لكلمة واحدة وحركة يد واحدة؛

- اقضمها..

قالت وهي تمسح طرف شفتي بحبّة منّ السمَا.

قضمتها ولعقتُ آخر ذرة من الطحين العالق حول فمي. ارتفعَ رصيف تحت أقدامنا وسقطت الحقيبة الحمراء منها. انحنت بكامل أناقتها تلتقطُ الحقيبة وهي تقول:

- لميعدلديناالوقتالكافي.. عليناأننذهب.

ظلّ الرصيف يرتفع ولا أعرف لماذا لم أكن اقترب من السقف كلما ارتفع. مالت الغرفة أكثر واختفت آخر قطرات المياه وفُتحت النافذة على مصراعيها. كُنّا قريبين من فوهة العالم عبر فتحة النافذة. تشبثت المرأة بالحقيبة وبي ولم أعلم أين أوصلني الرصيف هذه المرة. لم يكن هناك قاع ولا ثمة أرض تنتظرني من النافذة التي عبرتها للتو.. سوى هذا الفراغ الذي يربطني بمصير مجهول من علو خمسة طوابق.

أراهم كل مرة، يحلّقون فوق رأسي مثل رادارات أمريكا. يتكلمون كثيراً عن آخرين.. أسمعهم ولا يرونني، أفهم من كلامهم أنني أحب الورد الجوري، الزهري منهُ تحديداً. أشم رائحته بين الحين والآخر إلى أن تذبل في ذاكرتي ويستبدلونها بباقة جديدة. اؤلئك الذين يعرفونني ولا أعرفهم، يحبونني ولا أكرههم، يلقنونني درساً قاسياً في النسيان. فليس من العدل أن اسقط في الحمام وأنا أفكر بكِ وانسى كل شئ بعدها، وتظلين أنتِ كما أنتِ؛

غائبة كعادتك، في الجزء المحفوظ من ذاكرتي.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

Trending Articles