Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

مأساة نبيّة؛ أو، تفاصيل فشل عودة البنت الضائعة

$
0
0

إنّ تتبّع مسارات الأعمال الفنّـيّة ومواقع عرضها في فضاء اجتماعيّ ما، قد يدلّنا الكثير عمّا يجري في عمليّة انتاج تداول واستهلاك هذه الأعمال في هذا الفضاء. بهذا لا يمكننا أن نفهم الحركة الحداثيّة المتأخّرة التي تحتّم، أحيانًا، انتقال جزء من أعمال الفنّ من حائط المتحف، إلى أنواع فضاء اجتماعيّة أخرى جديدة، دون أن نبحث في ما يحصل في المجتمع العينيّ. وعندما نستطيع أن نحدّد الفضاء الجديد بأنّه الفضاء المعيشيّ العامّ، مثل الشارع أو المقهى أو الدوّار وما شابهها، فإنّ العلاقة الأساسيّة بين المؤسّسة الرسميّة المكعبة البيضاء النظيفة، والحياة اليوميّة المُعاشة تصبح هي لبّ المقولة في هذه الأعمال الفنّـيّة الأدائيّة. من نافل القول أنّ الفنّ يحمل الاجتماعيّ فنّـيًّا، ويقاس بما هو كذلك بمعاييره الخاصّة أوّلاً، ومن ثَمّ يبحث عن آفاقه الأرحب. وفي هذا المقال، أودّ أن أفحص حركة الانتقال هذه من المتحف إلى الشارع العامّ في العمل الأدائيّ للفنّانة أنيسة أشقر احفظ التاريخ: بعد الظهر“، الساعة السادسة مساءً بتاريخ 22 تشرين الأوّل من عام 2011 في حيّ وادي النسناس في مدينة حيفا، فلسطين المحتلّة عام 1948. 

الساعة السادسة مساءً أمام ساحة متحف حيفا، تتجمّع رويدًا رويدًا جمهرة من الأشخاص المختلفين. من الهيئة الخارجيّة لأغلبهم، يبدو أنّهم يهود إسرائيليّون أشكناز من الطبقة الوسطى يعملون مباشرة أو بصورة غير مباشرة في مجال الفنّ. البعض أحضر أطفاله، البعض أحضر كاميراته. المنتظرون تشكّلوا عشوائيًّا بحلقة نصف دائريّة مركزها المدخل الرئيسيّ للمتحف. بعد انتظار طويل، دام نحو 45 دقيقة بعد الموعد المحدَّد، خرجت أنيسة حاملة باقةً كبيرة من أغصان شجيرة القطن لُفّت حتّى أعلاها، إلى ما قبل زهرات القطن بقليل، بقماشة بيضاء رقيقة وشفّافة، وتبعها عشرة أشخاص يلبسون زيًّا موحّدًا: بنطالاً أسود وقميصًا أبيض ونعلاً أسود، كما رُسمت (أو -توخّيًا للدقّة-: كُتبت) على وجوههم شتّى العبارات باللغة العربيّة، وجرى رشق مسحوق ذهبيّ ذي بريق وآخر أزرق زاهٍ، بطيفين، على هذا الجزء من الوجوه على نحوٍ عشوائيّ، وكلّ واحد/ة منهم يحمل باقة أغصان شجيرة القطن ملفوفة بالقماش من ذات اللون والنوع والشكل كما أنيسة. 

بقيادة أنيسة بدأت المجموعة بالسير وتبعها جمهور المشاهدين، نحو 40 شخصًا قدموا خصّيصًا لمشاهدة العرض. في أغلب مقاطع المسيرة، كان جمهور المشاهدين يسير على جانبَي المؤدّين/يات، وهؤلاء ساروا على الأغلب بخطّ مستقيم وعلى رأسهم كانت دائمًا أنيسة. خلال المسيرة، وبفارق دقائق معدودة كلّ مرة، تتوقّف أنيسة وتدعو أحد المؤدّين/يات من أصحاب الزيّ الموحَّد إلى قراءة كلمة مكتوبة، وأحيانًا بعضهم ألقى كلمة ارتجاليّة، عن تجربته/ا مع وفي حيفا. كما حدث خلال المسيرة أنْ وزّعت أنيسة قسمًا من أغصان القطن على المشاهدين كما على بعض الأطفال القاطنين في وادي النسناس. بدأت المسيرة من باحة المتحف، متّجهة إلى يسارها حيث هنالك زقاق دور ذو الدرج يهبط إلى شارع الوادي، والذي يشكل الشارع الرئيسيّ للوادي إلى أن وصلنا شارع الخوري، فاتّجهنا إلى اليسار وبعد عدّة أمتار إلى اليسار ثانية لنصعد في شارع الجبل بضع عشرات من الأمتار لنصل إلى الشارع الصغير، وهو أقرب إلى الزقاق، الجانبيّ "حدّاد"، وهو الأخير قبل العمارة الحديثة التي تدلّ على انتهاء حيّ وادي النسناس. على تقاطع شارع الجبل وزقاق حدّاد هنالك بقالة، دخلتها أنيسة واشترت عبوة حليب تنوفا، أكملنا في حدّاد الذي أخذَنا ثانية إلى شارع الوادي، ودخلنا متّجهين إلى اليمين. عندما وصلنا التقاطع في نهاية الشارع، حيث زقاق دور ودرجه الصاعد باتّجاه شارع شبتاي ليفي والمتحف، جلست أنيسة على الجهة اليسرى لشارع الوادي حيث الرصيف المرمَّم حديثًا. طلبت من أحد المؤدّين أن يتكلّم، ولكنّها سرعان ما أسكتته، فتحت عبوة الحليب وبدأت بسكبها على يديها ومن ثَمّ أخذت تدعك وجهها وساعديها بالحليب. بينما هي على هذه الحالة من العمل، كانت تخاطب جمهور المشاهدين. بعد نحو خمس دقائق، انتصبت أنيسة واقفة، وقادت المجموعة باتّجاه زقاق الدرج وصعدنا إلى باحة المتحف، حيث انتهى العرض الأدائيّ هناك. وقفت أنيسة ومجموعة المؤدّين/يات على طول واجهة حائط مدخل المتحف وانحنوا للجمهور الذي قام بدوره بالتصفيق. دخلت بعدها المجموعة إلى المتحف من مدخله الرئيسيّ. انتهى العرض، وبدأت الحياة.

[أنيسة أشقر تتقدم المؤدّين/يات خلال عرضها في أحياء حيفا. تصوير دان مدورسكي.]  

2. 

لقد كانت أنيسة ترتدي عباءة (روب) سوداء حريرية، رُسِمَت/طُرِّزَت على مختلف أجزائه صور لأشكال توحي بأنّها من الشرق الأقصى، وهو من النوع الدارج في الأسواق الشعبيّة، وليس له دلالة خاصّة به، حيث يأخذ دلالته من طريقة وسياق استخدامه. ساعد هذا اللباس لتمييز أنيسة عن سائر المجموعة وكما سائر المشاهدين. منذ بداية العمل، كان حضور أنيسة مميَّزًا إلى حدّ بعيد، ولقد استخدمت أشكالاً أدائيّة غير متوقَّعة تفاجئ المُشاهد العاديّ كما المتمرّس على حدّ سواء. قد يكون أهمّ ما في هذا الحضور هو قدرتها القياديّة، واستحضارها لأدوار اجتماعيّة مارستها المرأة ولكنّها غُيِّبَت عبْر التاريخ الذكوريّ /الأبويّ /التوحيديّ، بالأساس الحكيمة /النبيّة /الزعيمة. هذه الأدوار تأتّت لأنيسة بسبب من قدرتها التشكيليّة التي سكبت هذه المادّة بقالب فنّـيّ مميَّز، يعتمد الخروج من المتحف إلى الشارع ليعيد تعريفهما فنّـيًّا. ويبقى السؤال الذي سأتناوله لاحقًا، حول الضرورة الفنّـيّة لقفل الأداء بالعودة للمتحف ذاته والمحمول الاجتماعيّ لهكذا فتح وإغلاق. وسأعرض في ما يلي لأداء أنيسة بالتفصيل، وذلك لأهمّـيّته في العمل ككلّ. 

في انطلاق أنيسة من ساحة المتحف باتّجاه زقاق دور الدرجيّ، كان هنالك درجة عالية من التصميم والحزم، حيث إنّ العبور من فضاء المتحف إلى فضاء الزقاق الانتقاليّ كان سلسًا دون تخبّط من قِبَل أنيسة. عندما وصلتْ إلى الدرجات السفلى من الزقاق، وكان أغلب المؤدّين/ات والمشاهدين على الدرج، توقّفتْ وطلبتْ إلى القارئ الأوّل أن يقرأ. من جهة، كانت تلتقط أنفاسها، ومن جهة أخرى كانت ترتّب الجمهور الذي تقوده، وذلك عن طريق إعطاء أوامر واضحة حول مَن عليه أن يبدأ القراءة ومتى يتوقّف، وكذلك احتكارها للتعقيب على القارئين والقارئات. استمرّت أنيسة في إحكام سيطرتها وقيادتها للمجموعة كما للمشاهدين عبر العمل كلّه. إنّ تحديد اتّجاه المسير، مضمونه، وإيقاعه، من قبل أنيسة، كَفلَ وحدة العمل الفنّـيّ الأدائيّ، بحيث شكّل العمودَ الفقريّ له. هذا ممّا أدّى إلى شعور أساسيّ لدى المشاركين من مؤدّين/يات ومشاهدين/ات بلحمة العمل الفنّيّ المغلّفة لهم ولهنّ. 

برزت قياديّة أنيسة باستحضارها جوانب من شخصية "بنت البلد" في الثقافة العربيّة الفلسطينيّة، في علاقاتها مع الفضاء الاجتماعيّ في وادي النسناس أزقّته وشوارعه وأهله. فهي أظهرت حميميّة دافئة غلّفَت بها حركاتها وتنقّلاتها في المكان لتعلنه امتدادًا لجسدها، وإلى حدّ ما الأجساد التي تقودها من مؤدّين/يات. الخطى تكلّم حجر الزقاق وحيطانه، والمشي واثق من ذاته كأنّه يُدَرِّج بنات الحيّ وبيوته؛ الوقوف والتمهّل والمراوحة تحقِّق مكانيّة أنيسة والحيّ وأهله، والانعطافات تتمّ بزوايا مرسومة مسبقًا بمكيال سنين من العِشرَة، وفي لحظة ما يفقد المشاهد مميّزات الفصل بين أنيسة جسدها والواد. فوق وفي هذا الكلام الجسديّ الحركيّ، طبقة الكلام المتلفَّظ التي تمتّن العلاقة بنوع الطاقة الأساس بين الصوت والعمل، حيث تقوم أنيسة عبْر جُمل قصيرة تأطيريّة بتحديد متكرّر للعلاقة بين الحدث الفنّـيّ بقيادتها، مجموعة المؤدّين/يات، والفضاء الاجتماعيّ المباشر لهم. تَنْحَت أنيسة هذه العلاقة على أنّها طبقة من طبقات فضاء الوادي، تعمل من خلال طِباق متجانس إيجابيّ، هو النحويّة المفصَّل في شخصيّة "بنت البلد" الفلسطينيّة. والطباق هنا هو كالآتي: أنا من عكّا /أنا من يافا، ولكن دائمًا أمرّ من /في حيفا، أنا بنت البلد /وأنا (الـ)بنت الغريبة، عبوري في المكان يكفي لكي يصبح منّي وأصبح منه. إنّ العبور في حيفا لا يمكن له أن يتمّ بسذاجة "بنت البلد" التي لم تفحص مركّبات أنوثتها ومركّبات ذكورة بلدها، وأنيسة -ممّا لا شكّ فيه- تأتي بخبر الوعي الارتداديّ المتشكّل عبر ردّ الآن، زمن أنثى ذكر البلد، إلى قاعِهِ /قاعدته الأوّل /الأولى: الحكيمة /النبيّة /الزعيمة.

في فنون بعض المجتمعات القديمة، من فراعنة وإغريق ورومان، تحمل الآلهة -كما الملوك والقادة- صفاتها بيديها، وَ/أو توضع على رؤوسها مثل تاج الغار، وحتّى في أعلى كاحلها كما الجناحين مع تماثيل هرمس المتعدّدة. إنّ النظر من الفهم الحداثيّ إلى هذه الممارسة الفنّـيّة الاجتماعيّة قد يرى فيها نوعًا من الأوّليّة، حيث إنّ الفنّان لم يستطع تجسيد الصفة في الوجه /الجسد وعلاقاته بالبيئة التشكيليّة المباشرة، فلذلك لجأ إلى استخدام رموز /أشياء مادّيّة مباشرة هي بمقام الشعار من الفكرة، إن جازت هذه المقارنة. إنّ في هذا التفسير الكثير من الإجحاف والإسقاط الحداثيّ على فترات تاريخيّة سابقة، حيث إنّ الفكرة الحداثيّة التي مُفادُها أنّ صفات الفرد نابعة من مكوّناته الداخليّة، النفس أو أيّ بنْية أخرى، ليست إلاّ جزءًا من المشروع الحداثيّ ذاته. في السابق، سادت أفكار شتّى حول كيفيّة اكتساب الأفراد صفاتهم وهي تختلف عن الفكرة الحداثيّة، وذلك تبعًا لأشكال البناء الاجتماعيّ ومنظومات الوعي المنبثقة عنه. إنّ استخدام أنيسة لهذه التقنيّة في الأداء، أي حملها لرموز /أشياء مادّيّة مباشرة كإشارة لصفاتها، عوضًا عن تشكيل آخر حداثيّ مثل حركة راقصة أو تعبيريّة وما شابه، كان في ثلاثة أشكال ثابتة وشكل رابع جرى في مشهد أدائه. الأشكال الثابتة والتي لم تتغيّر عبْر العمل ككلّ هي الكتابة على وجهها ورشّ اللون المسحوق الذهبيّ ذي البريق وذلك الأزرق بطيفيه، أغصان القطن المحمولة بيديها، والعباءة السوداء. أمّا الشكل الرابع، فكان في المحطّة قبل الأخيرة من العمل حيث جلست أنيسة على الرصيف وغسلت وجهها بالحليب وسكبت بعضًا منه على باقة القطن التي كانت في حضنها. هذه التقنيّات التعبيريّة لها مضامين مباشرة ومحدّدة، وهي تشير إلى حقول من المعاني بدرجات متفاوتة من العموميّة، وكذلك هي مركّبة بحركة جماليّة تعبيريّة. قبل الدخول في تفاصيل هذه التقنيات وأشكال علائقيّتها ببعضها البعض، من المهمّ الإشارة إلى أنّ هذه التقنيّات تصبح ذات معنى بكونها وضعت على الجسد /المادّة /التقنيّة الأولى.  

 

أريد أن أبدأ من القطن، لا لأنّه المعلم الأبرز بصريًّا فحسب، وإنّما لأنّه يشكّل المفصل الجماليّ الأوّل في العمل، أو على الأقلّ هذه المداخلة التي سأحاول عرضها هنا. القطن، في لغة صناعة الفنّ، هو إحدى الموادّ الأساسيّة التي يُصنع منها قماش الرسم الـ Canvas (بالإضافة إلى الكتّان Linen  وَ Cannabis وَ Jute هذا بالطبع بالإضافة إلى الورق وموادّ مصنَّعة أخرى). فإن كان المضمون هو القطن، فإنّ حقل المعنى الأوّل في حمله هو الإشارة إلى إرجاع القاعدة، القماش، التي ينبني عليها العمل الفنّيّ إلى مركّباته الأولى، القطن. وبشكل مُوازٍ إرجاع وعي العمل الفنّـيّ ككلّ إلى جسد العاملة الفنّانة، فجسد الفنّانة هو بمثابة القماش الذي يُرسم عليه العمل الفنّـيّ، ولكن في الرجوع تفكيك للمركّبات، فالحركة الأولى للعاملة ليست الحركة الراسمة /الراقصة بل المشي والتأشير، وهذا ما تقوم به أنيسة؛ تمشي وتشير، لتدلّنا على مركّبات الحركة المُشكّلة. وكما ذكرت أعلاه، إنّ المشي والإشارة في هذا العمل تمّا عبْر استحضار شخصيّة بنت البلد /بنت (الـ)غريبة بإتقان لافت للنظر. هذا الإتقان يحملنا إلى الحقل الثاني في مضمون القطن من حيث الصفات والصنعة التي تُنسب إليه عبْر طبقات من الممارسات الفنّـيّة الحديثة، وأخرى قديمة تستحضرها التراكيب التي تبنيها أنيسة فنّـيًّا.

يبرز استخدام القطن في الفنّ التشكيليّ الحديث بالأساس في الرسومات التي تناولت مشاهد من جنوب الولايات المتّحدة الأمريكيّة في القرن التاسع عشر، تحديدًا، قبل الحرب الأهليّة وبعدها (1861-1865). نلاحظ أنّه في هذه الفترة ازدهرت الأعمال الفنّـيّة التي تتناول مشاهد من الحياة اليوميّة في الجنوب الزراعيّ /العبوديّ، حيث كانت مزارع القطن العصبَ الأساسيّ في الحياة الاقتصاديّة الاجتماعيّة للكونفدراليّة، قبل الحرب، ولتسخير الجنوب للشمال الصناعيّ بعد الحرب. بعض الفنّانين كان متواطئًا مع النظام العبوديّ، ونرى ذلك بوضوح من خلال أعمالهم. على سبيل المثال، ويليام إيكن ووكر (1838-1921) William Aiken Walker الذي شارك في الحرب الأهليّة كجندي وكموظّف، ومن ثَمّ انتقل لرسم مشاهد جنوبيّة وبيعها للسيّاح ولأصحاب الحنين إلى الجنوب الذي "فُقِد" بعد الحرب الأهليّة. ففي أغلب أعماله، نجد رجلاً وامرأة من أصول أفريقيّة يقفان في مواجهة الناظر، وبعضهم يحمل سلال تجميع القطن بعد قطفه، والخلفيّة العامّة هي حقول شاسعة من القطن. وبينما تبدو الطبيعة والحقول في وضع مزدهر ومليء بالحيويّة والنشاط والحركة، يبدو الأفارقة في وضع بائس من الذلّ والمَهانة من حيث حضورهم الجسديّ إلى جانب قناع تعبيريّ على الوجه للسعادة التي هي من نصيب الأغبياء فطريًّا، وكأنّ الرسام شكّلهم/نّ في حالة هي أقرب للطبيعة الحيوانيّة منها إلى الطبيعة الإنسانيّة. أمّا ونسلو هومر (1836-1910) Winslow Homer، فهو معروف كرسّام للمَشاهد الطبيعيّة عامّة، ولم يركِّز في أعماله على الجنوب بشكل محدّد. بل من الممكن القول إنّ قاطفات القطن (1876) The Cotton Pickers هي لوحة من سلسلة أعماله التي تتناول مِهَنًا قامت بها نساء من أعراق مختلفة، مثل نساء صائدات سمك، واللافت للنظر أيضًا هو أنّ تركيب قاطفات القطن الداخليّ ينسجم مع سائر الأعمال الأخرى لهومر. فالشابّتان تقفان في وسط حقل القطن، تحمل كلّ منهما سلّة لتجميع القطن، ملابسهنّ عاديّة وليست بأسمال بالية -كما جرت العادة عند رسم عبيد مزارع القطن-، جسداهما معافَيان وطافحان حيويّة وقوّة ونشاطًا، التي تقف إلى اليمين تحمل كيسًا مليئًا بالقطن وتنظر إلى اليسار باتّجاه الأفق بنظرة حازمة وكأنّ بها رؤيا، أمّا الشابّة التي تقف إلى اليسار فهي تحمل سلّة مليئة بالقطن تنظر إلى زهرات القطن بجانبها وأصابع يدها اليمنى تداعبها، وهي تبدو حالمة تركض وراء خيالها برومانسيّة عالية، ولكن هناك في جسدها ما يوحي بالتصميم والإرادة القويّة. الخلفيّة هي حقل قطن ممتدّ إلى نهاية الأفق، بينما السماء ترتدي الأبيض والرمادّيّ الخفيف حدّ الأزرق يتخلّلهما بداية نور الغروب الأصفر شبه البرتقاليّ. تقول اللوحة بصريًّا إنّ التحوّل أصبح قاب قوسين أو أدنى. وأرى أنّ أنيسة في استخدامها للقطن، استحضرت هاتين الشخصيّتين من قاطفات القطن، صاحبة الرؤيا التي تنظر إلى الأفق، والحالمة التي على شحنة عواطفها تقف المحارِبة الأولى صاحبة الرؤيا. ولعلّ خروج أنيسة من حقل عملها /عبوديّتها المتحف الإسرائيليّ هو ما يحتّم هذا التفسير من العلاقة بين القطن والمهنة والتحرّر من القمع. إلاّ أنّ أنيسة في عملها المُركَّب لا تكتفي بهذه الطبقة من المعاني، بل تأخذنا إلى ما هو أعمقُ تاريخيًّا من السياق الاستعماريّ المباشر، وذلك بغية تفكيك القاعدة الاستعماريّة-الأبويّة للنظام القائم والذي يشكّل المتحفُ الأبيضُ تحويرًا مؤسّساتيًّا عليه. تأخذنا أنيسة، في هذا الجانب من العمل، إلى الأدوار التي قامت بها المرأة قبل صعود النظام الأبويّ-التوحيديّ وسيطرته على المجتمعات المختلفة. 

القطن يشكّل مادّة الملابس الأساسيّة التي تمنح الدفء والأمان والصحّة، وهو كذلك يُستخدم لمداواة الجروح وللتطبيب. في مجموعة التداعيات الأولى، استحضرت أنيسة دَوْرَ الزعيمة والقائدة الاجتماعيّة التي تهتمّ بشؤون رعيّتها عن طريق تلبية احتياجاتهم الأساسيّة من دفء وأمان وصحّة. أمّا المجموعة الثانية من التداعيات، فهي تستحضر دَوْر الحكيمة، وهي هنا خليط من مفهومَي الحكمة والطبّ الحديثيْن، فهذا الدوْر الذي قامت به المرأة مارست من خلاله وظائف طبّـيّة ووظائف المرشدة "الروحيّة" إن جاز التعبير. واختيار القطن في هذه الطبقة من المعاني هو لافت للنظر من حيث مفصليّته الجماليّة الاجتماعيّة القادرة على أن تحمل أوجهًا شتّى من حقول المعاني وتراكيبها المختلفة. أمّا الدور الثالث القبل-أبويّ الذي تستحضره أنيسة فهو دور النبيّة، والذي يعبّر عنه من خلال الكتابة على الوجه، الرسالة، والذي سأتطرّق إليه في القسم التالي. سأتوجّه الآن لربط طبقات المعاني "القطن" لكي أستخلص مفصليّته في العمل ككلّ.               

يشكّل القطن، مادّيًّا رمزيًّا ودلاليًّا، المثالَ الأنموذج للظاهرة المسمّاة over determination، فأوّليّة هذه النبتة في إنتاج الحياة الاجتماعيّة تجعلها تأخذ أدوارًا شتّى عبر العصور التاريخيّة المختلفة. لم يختفِ القطن منذ تدجينه اجتماعيًّا، وإنّما تمفصل من حيث هو مركّب في الإنتاج المادّيّ الاجتماعيّ، ومن حيث هو عنصر علائقيّ في حقول للمعاني المتناقضة، في كلّ تحوّل من جديد حاملاً الأشكال السابقة لمعانيه. ومن هنا، إنّ استخدامه الفنّـيّ في سياق العمل الذي نحن بصدده، مكّنه من أن يحمل هذه الأوجه المتعدّدة، بدءًا من كونه المادّة الخام لقماش الرسم، ولاستحضاره لإرث العبوديّة في رسومات الفنّانين الأمريكان في القرن التاسع عشر، ومن ثَمّ استحضار الأدوار القبل-أبويّة التي مارستها المرأة. لقد شكّلت شخصيّة بنت البلد /بنت (ألـ)غريبة القاعدة التي بُنيت عليها هذه الطبقات الثلاث من المعاني لتعطينا الحركة الجماليّة العامّة لأداء أنيسة في العمل بمجْمله. فلقد شكّلت بنت البلد المركّب الأساس في شخصيّة الفنّانة أنيسة مثلما شكّل القطن المركّب الأساس في قطعة القماش التي نرسم عليها، وبنت البلد هي الوحيدة التي تستطيع أن تمشي وتشير في الفضاء الاجتماعيّ دون أن تكون بحاجة إلى وعي مَدْرسيّ مُستورَد، وَ/أو مُكتسَب، فإن كان سطح القماش بحاجة للمدرسة لكي تستطيع أن تبني حركة الرسم، فإنّ المشي والإشارة هما حركتان أوّليّتان فطريّتان لمن هي بنت البلد، ولكلّ بنت بلد. لكن هذا المشي وتلك الإشارة لبنت البلد، كشكل من أشكال العمل الاجتماعيّ، مأسوران بسبب أنّ البنت والبلد يخضعان لنظام يستحضر نظام قطن آخر، ذلك النظام العبوديّ في أمريكا القرن التاسع عشر. تَستحضر أنيسة عبْر حملها للقطن بشكل معيّن وتحديد علاقتها بالفضاء الاجتماعيّ الذي تسير فيه، تستحضر لحظة جماليّة مفصليّة هي لحظة نشوة ما قبل الانعتاق الواعية تمامًا لحدثيّة الانعتاق الحتميّة كما في قاطفات القطن لونسلو هومر. إنّ أبرز ما يميّز هذه اللحظة الجماليّة في عمل أنيسة هو استحضارها لنشوة ليلة ما قبل العيد بكرنفاليّتها الطفوليّة في أزقّة وحواري المدينة العربيّة الإسلاميّة من حيث زمنها القمريّ، فبالرغم من أنّ كلّ ما في الدنيا جاهز لقدومه، فهو غير أكيد، يتملّص منّا: عيد أم ليس بعد؟ انعتاق أم ليس بعد؟ إنّها نشوة الاستشراف. إنّ اكتمال هذا التركيب الجماليّ يصطدم مباشرة بالإرث الفنّيّ الحديث الذي رسم فيه الفنّان الرجل الأبيض في الحداثة الأوروبيّة مشهدَ العاملات، في مجتمعه الأوروبيّ كما في المستعمرات، في الحقول مرارًا وتكرارًا. لقد استطاع أن يرسمها تحديدًا لأنّه امتلك نظامًا أجبرها على العمل اليدويّ، من جانب، ومَوْضَعَها كشيء يَنظر إليه الرجل ليعيد سيطرته عبر شهوة لا تشبع، من جهة ثانية. في عمل أنيسة شيء ما لا يقبل أن يعمل في الآن /الهنا الرأسماليّة /الأبويّة، فهي تمشي وتشير حاملة أغصان القطن، معطيات ما قبل العمل المنتج في السوق. وفي هذا التقاطع يردّنا القطن، حفرًا، إلى الزعيمة /الحكيمة وسائر تلك الأدوار الما-قبل أبويّة التي قامت بها المرأة.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

Trending Articles