للحياة صوت، فالحضارة صوت، والفنون صوت، والإنسان صوت، والحيوان صوت، والله صوت، والدين صوت، و الثقافة صوت، والحرب صوت، و السلم صوت، والإنتاج صوت، فالحياة كلها صوت، ولا صمت إلا الموت (والصمت تأويل للصوت). ولولا غرق الإنسان في إدراك الحياة بعينه لا بأذنه، لأمكنه أن يُغير مفهومه لوجوده كذات وموضوع معًا ويمتلك حرية أكبر فيما يتعلق بهما، بالإستناد لكل الأصوات حوله وفيه، إذ أن هوس الحضارة الإنسانية بالمراقبة والقياس والتحجيم والتشكيل، يحجب عنه –الإنسان- جوانب مختلفة من ذاته ومحيطه وعالمه.
مع إنتقال "المدلول" من "الدال" السمعي/الأذني/الشفاهي، إلى "الدال" المرئي/العياني/الكتابي، يتغلب النزوع المادي على المعنوي له، وهنا تبدأ بنيوية السلطة والسيطرة وآلياتها الرقابية و الضبطية، بتحويل الفكرة/المدلول إلى مادة. وهنا تبدأ السيطرة في التحرك على محورين في الزمان و المكان:
أولًا: أمامًا، فتسعى العين الرائية للسيطرة و التملك للكون، لتضع الكون المتسع، أمامها، فتبدأ شهوة الاستعمار، بوضع الأرض "الجديدة" في مرمى العين، وتشكيل عين المُحتل/المُستعمَر، بحسب عين المُحتل/المُستعمِر، يذكر مثلًا أن الإسباني في استعماره لللاتينية، حيث كانت الإنكا والمايا قبائل تقدم تراسيم عباداتها للشمس، كان قد قدم نفسه ابنًا لآلهتهم/الشمس، بياضٌ ببشرة سماوية، وعين زرقاء كالبحر، وشعر يشتعل صفرة كشمس، مهندسًا أعينهم كعينيه الطامعة في بلادهم وأرضهم وتاريخهم.
ثانيًا: خلفًا، فثارت الأديان على التاريخ، فقيل أن المسيح أبيض، وتارة أسود، وأخرى أصفر، كل تلك الإسباغات هي إرضاءات للعين؛ أخذت مالم تأخذه الأذن من إرضاءات إلا القليل، ممن تساءل مثلًا عن لغة/لسان آدم (منهم للمثال لا الحصر، كان عبد الفتاح كيليطو).
ماذا لو قُرأ الوجود بأصواته لا بصوره، ماذا لو انكسرت خريطة العالم التي لم تكن إلا إرضاءً لشهوة العين، أما كان للذات أن تتكلم فتكون/توجد، دون الحاجة للعين الرائية في المقولة الشهيرة "تكلم لأراك"، وكأن الوجود محكوم بالرؤية لا بذاته.
الموسيقى موت الكلمة، فيتحرر المعنى بالصوت. أورد ابن عربي قولة للنفري " ياعبدي اللّيل لي، لا للقرآن يُتلى، اللّيل لي لا للمحمدة والثّناء"، فيُفرّق ابن عربي في تلك المقولة بين "تلاوة" حاجبة وأخرى كاشفة، الأولى تحجب منجزها عن الله الذي خصّ اللّيل له، انطلاقًا من انشغال صاحبها بمعاني القرآن عن الله. وهو ما أوضحه الشيخ الأكبر رائيًا أن الله يتوجه إلى منجز هذه التلاوة بالقول: "وماطلبتك لتتلو القرآن، فتقف مع معانيه. فإن معانيه تفرّقك عنّي، فآية تمشي بك في جنتي، وما أعددت لأوليائي فيها. فأين أنا، إذا كنت أنت في جنتي (...) وآية توقفك مع ملائكتي (...) وآية تستشرف بك على جهنم، فتعاين ما أعددت لمن عصاني وأشرك بي (من سموم وحميم وظل من يحموم لا باردٍ ولا كريم)، فأين أنا والليل لي؟، فهذا أنت ياعبدي في النهار معاشك وفي الليل ماتعطيه تلاوتك: من جنة ونار وعرض، فأنت بين آخرة ودنيا برزخ، فما تركت لي وقتًا تخلو فيه، لا لنفسك، بل لي".
الصوت أبهة البهي في تجلي المعنى وإشراقه (ما للتجلي من انفتاح على "الإشراق" بالمنطق الصوفي)، الصوت في الترتيل هاهنا بين تلاوتين، هو الموسيقى ملمسها نسيج الصوت، يقول للمعنى تجلَّ هنا والآن، آلهةً.