يوميات طاهر عبد الحميد الفتياني وإضاءات على الحياة والمجتمع العربي في القدس خلال الحرب العالمية الثانية
الحلقة الثانية
[اضغط/ي هنا للحلقة الأولى]
تناولت الحلقة الأولى من هذه الدراسة والتي نشرت في العدد الثاني عشر من حولياتالقدس (شتاء 2011) أوضاع مدينة القدس خلال الحرب العالمية الثانية استناداً ليوميات المقدسي طاهر عبد الحميد الفتياني، وقد عرَّفت باليوميات وصاحبها، وعرضت للأحوال العامّة التي سادت المدينة خلال الحرب، ولانقسام الشارع الفلسطيني تجاه تأييد إحدى القوتين المتحاربتين، كما تناولت علاقة فئة من النخبة الفلسطينية بحكومة الانتداب البريطاني خلال هذه الفترة. تستكمل هذه الحلقة البحث وتتناول مواقف طاهر الفتياني من ورؤيته لثلاثة من شخصيات حزب الاستقلال(1)، رشيد الحاج إبراهيم (1889-1953) وعوني عبد الهادي (1882-1970) وعجاج نويهض (1896-1982)، كما تتناول علاقته مع أحد المقربين من الحزب، أحمد حلمي عبد الباقي باشا(2) (1882-1963).
يناقش العرض الآتي مواقف الفتياني هذه في إطار تحليلي للعلاقات المتشابكة بين شخصيات النخبة الفلسطينية في فترة الحرب العالمية الثانية، فيبحث في موقف المعسكرين الفلسطينيين، معسكر الحسينيين أنصار الحاج أمين الحسيني، ومعسكر المعارضة، أتباع راغب النشاشيبي وحزب الدفاع، وشخصيات حزب الاستقلال هذه، من القوى المتحاربة، المحور والحلفاء، والموقف من التحالف مع إحداها. ويضيء العرض جوانب من الدعم الإعلامي والشعبي الذي قدّمه الاستقلالي عجّاج نويهض للمجهود الحربي البريطاني، كما يضيف تفاصيل واسعة حول مساعي الاستقلاليين هؤلاء لتشكيل قيادة جديدة للحركة الوطنية، بديلاً عن قيادة اللجنة العربية العليا، التي كان يرئسها المفتي، والذي كان لاجئاً في أوروبا، متنقلاً بين إيطاليا وألمانيا (4)، وبعيداً عن الساحة الفلسطينية.(5) وقد اعتبر الحسينيون هذه المساعي مؤامرة من الحكومة الانتدابية، مما عمّق بالتالي الخلاف والتنافر بين هؤلاء الاستقلاليين وبين الحسينيين. يكشف موقف الاستقلاليين الثلاثة هؤلاء الانقسام الفكري الذي حصل داخل جماعة حزب الاستقلال، فعلى عكس موقفهم المؤيد لبريطانيا وحلفائها ضد المحور، وقفت شخصيات أخرى من مؤسسي الحزب وأركانه، مثل عزة دروزة وأكرم زعيتر ومعين الماضي، ومعهم الاستقلالي السوري نبيه العظمة، والذي كان له دورٌ أساسي في تأسيس الحزب بفلسطين، ضد بريطانيا(6)، وتابعت هذه الشخصيات، وبروح التأييد والمؤازرة، مساعي المفتي للحصول على معاهدة مع دولتي المحور تضمن استقلال البلاد العربية، وإلغاء الوطن القومي اليهودي، مقابل مساعدة المحور في حربه ضد بريطانيا، وبقي هؤلاء منفيون خارج فلسطين، ولم تسمح بريطانيا بعودتهم، رغم عفوها عن العشرات من المنفيين والفارّين.
خلفية عامّة
لقد امتازت فترة الحرب العالمية الثانية باستمرار الانقسام في صفوف النخبة الفلسطينية، وهو انقسام بدأ سطحياً في السنوات الأولى للانتداب البريطاني، ولكنه أخذ وضعاً عميقاً وحاداً خلال المرحلة الثانية من الثورة العربية الكبرى، (تشرين ثاني 1937 إلى كانون أول 1939)، حيث شاعت اغتيالات المعارضين للمفتي من قِبَل أنصاره، وأيضاً حين وافق حزب الدفاع على الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة البريطانية في 17 أيّار 1939، بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة، الذي عقد خلال شهري شباط وآذار 1939، بالتوفيق بين الصهاينة والعرب، انسجاماً مع موقف الأمير عبد الله بن الحسين، وقابل ذلك رفض المفتي وأنصاره الكتاب، حيث اعتبروه قاصراً عن تحقيق الأماني القومية للشعب الفلسطيني.
شهدت الحرب العالمية الثانية وقوف معسكر المعارضين مع بريطانيا وحلفائها، وتقديم دعمهم لجهودها الحربية من خلال الإعلام، ومن خلال تشجيع العرب على التطوع في صفوف الجيش البريطاني والمشاركة في القتال معه، قابل ذلك رفض المفتي للتطوع مع الجيش البريطاني، ووقوف أنصاره في الكتلة الحسينية ضد الحلفاء في هذه الحرب، ومساندتهم لدولتي المحور، ألمانيا وإيطاليا، ولجهودهما الحربية. يؤكد المؤرخ الأمريكي هيروفتز(7) أن السياسيين الفلسطينيين انقسموا بين أغلبية تقف ضد بريطانيا وأقلية تدعمها، ويقول أن أعضاء حزب الدفاع ضاعفوا جهودهم كي تعتبرهم الحكومة البريطانية في فلسطين الناطق الوحيد باسم الفلسطينيين، الأمر الذي لم يحصل كون الحكومة كانت تأمل بكسب تأييد الحسينيين لها، لذا فهي، حسب رأيه، لم تسع مطلقاً من كل قلبها لنزع الثقة بالحاج أمين، أو لدعم واحدٍ من خصومه المحليين. في المقابل، كان الحاج أمين والحسينيون قد حققوا نصراً سياسياً على الحكومة الانتدابية من خلال تفعيل حملة، بمساعدة حيوية من إيطاليا وألمانيا، ضد بريطانيا، وقد أطلق الحاج أمين في مواجهة أنصار بريطانيا حملة ضد التطوع في صفوف الحلفاء، نجحت، كما يقول هيروفتز (8)، في جعل أعداد المتطوعين العرب قليلة للغاية، (9)وقد كان المفتي واعياً تأثير الدعاية البريطانية في الرأي العام الفلسطيني، وقد حذّر زعماء دولتي المحور استخدام الإنجليز للمراوغة والمسايرة مع العرب من أجل ضمان دعمهم لمجهودها الحربي ضدهم(10)حاول المفتي خلال عامي 1940 و1941، وخصوصاً بعد فشل حركة الكيلاني (أيّار 1941) ضد الإنجليز في العراق، إشعال الثورة ثانيةً في فلسطين، ولكن مساعيه لم توفَّق(11)، وفي داخل فلسطين وقف الحسينيون موقفاً رافضاً لدعم الدعاية للحلفاء في صفوف الفلسطينيين، ولم يسمح زعماء العائلة وأنصار المفتي لأحد من أتباعهم بالانضمام لمؤسسات الدعاية البريطانية خلال الحرب (12)مثل الإذاعة الفلسطينية (هنا القدس)(13)، وإذاعة الشرق الأدنى (14)، ومجلة هنا القدس ومجلة المنتدى. (15)
شهدت فترة الحرب تغيراً في موقف عدد من مؤسسي وقادة حزب الاستقلال من حكومة الانتداب البريطاني، وهم عجاج نويهض، وكان قد بقي في فلسطين خلال الثورة، ولم يتعرض لإجراءات العقاب البريطانية بعد أن اقترب خلال هذه الفترة من حزب الدفاع وزعيمه راغب النشاشيبي، ورشيد الحاج إبراهيم وعوني عبد الهادي، اللذان سمح لهم الإنجليز بالعودة لفلسطين بعد انتهاء الثورة الفلسطينية،(16) وحسب ما دوّنه الثلاثة في مذكراتهم وذكرياتهم (17)عن هذه المرحلة فإن الوضع اقتضى الوقوف مع بريطانيا وحلفائها ضد ألمانيا وحليفتها إيطاليا(18)، وكان هذا الموقف مطابقاً لموقف رجال حزب الدفاع الذين حاججوا بأن الحرب ليست حرباً عسكرية فقط، بل هي تتعلق بالقيم العالمية(19)، فالمعسكر الأول (الحلفاء) مثّل الديمقراطية والحرية في حين مثّل المعسكر الثاني (المحور) العدوان والاستعباد(20)، وكان من الطبيعي حسب نويهض والحاج إبراهيم أن يوقف حزب الاستقلال نشاطه السياسي بانتظار ما ستسفر عنه الحرب، وعلى أمل أن يعيد البريطانيون النظر في سياستهم في فلسطين، بما يضمن حقوق الفلسطينيين ويمنع ضياع وطنهم. وحسب هيروفتز فقد أخذ هؤلاء الاستقلاليون يلعبون دوراً في المجال الاقتصادي والبنكي،(21)كما أخذوا سياسياً الدور الذي فشل حزب الدفاع العربي في تحقيقه، وهو حشد الفلسطينيين خلف بريطانيا وجهودها الحربية. وتأتي هذه المواقف على نقيض مواقف الحاج أمين الحسيني، والذي فشل البريطانيون في إقناعه بالموافقة على الكتاب الأبيض (1939) كأساس لحل القضية الفلسطينية، وفي جلبه لمعسكرهم ضد الألمان والطليان. لقد بدأت علاقات الغزل بين المفتي والألمان منذ صعود هتلر للحكم ووقوفه ضد اليهود في ألمانيا، ومع تصاعد الثورة الفلسطينية الكبرى وجد المفتي نفسه في المعسكر المعادي للإنجليز والمساند للثورة المسلّحة ضدهم دون مواربة، ثمّ ساهم بفاعلية وقوة في حركة رشيد عالي الكيلاني ضد الإنجليز في العراق سنة 1941، وكان الألمان قد وعدوا بدعم الثورة، ولكن دعمهم لم يرق للمستوى اللازم لتحقيق النصر على الإنجليز، إلاّ المفتي شرع بالاتصال بالزعيم الألماني هتلر منذ وجوده بالعراق، فكان من الطبيعي أن يميل خلال الحرب للمحور المناهض للإنجليز.
الاستقلاليون في مذكرات الفتياني
يدوّن الفتياني في يومياته تفاصيل عديدة حول الاستقلاليين الثلاثة وصديقهم أحمد حلمي باشا، ويتتبع أخبارهم ويعلّق على نشاطاتهم ومواقفهم السياسية. وفي حين يبدي تفهماً لمواقف الأخير، ويتعاون معه في مسائل كثيرة، إلاّ أنّه يكتب بلغة ناقدة للثلاثة الآخرين، فيصف رشيد الحاج إبراهيم بأنَّه "الوطني المحترف ذو الوجهين"(22)، ويقول أنّ عوني عبد الهادي غير جدير بالثقّة، ويتبع ذكر عجّاج نويهض بعبارة "المأسوف على وطنيته". ويلاحظ بأنّ تسجيلات الفتياني تبيِّن أنّ عجّاج نويهض لم يكن ناشطاً في العمل السياسي مع زملائه الاستقلاليين كرشيد الحاج إبراهيم وعوني عبد الهادي خلال فترة الحرب هذه، ويتفق هذا ما أورده عزة دروزة في مذكراته عن انحياز نويهض لراغب النشاشيبي والتصاقه الوثيق به وميله لجماعة المعارضة منذ 1937(23)، وهو أمر يؤكده نويهض نفسه(24). ويعتقد دروزة أن عجاج قد انزلق مع الدفاعيين انزلاقاً خطيراً حين شجّع في شهر تشرين الثاني 1937 فكرة تشكيل لجنة عربية عليا تحلّ محل اللجنة التي حلتها حكومة الانتداب(25)، والتي كانت برئاسة الحاج أمين. أما عن موقف الكتلة الحسينية من هؤلاء الرجال، فقد عدّ الحسينيون ومنهم طاهر، كل المعارضين للحاج أمين بمثابة منافقين وخارجين عن الصفّ الوطني، وتعاملوا مع نشاطاتهم ومشاريعهم السياسية من هذا المنطلق.
تمثّلت مساعي الاستقلاليين، ومعهم أحمد حلمي باشا، في تأسيس هيئة سياسية جديدة تمثّل الفلسطينيين وتنظِّم العمل الوطني، واقترحوا على الحسينيين استبدال زعمائهم الغائبين بآخرين من المقيمين في فلسطين، بيد أن الحسينيين رفضوا التعاون في تشكيل مثل هذه الهيئة ففشلت جهود الاستقلاليين. حاول الاستقلاليون بعد ذلك، وبمبادرة من أحمد حلمي باشا، تأسيس حزب جديد، ولكن مساعيهم لم تتبلور عن شيء، وحاولوا أخيراً عقد مؤتمر وطني عام بالقدس من خلال الغرف التجارية الفلسطينية، ولكن الحسينيين قاطعوا المؤتمر وأفشلوه.
رشيد الحاج إبراهيم والسعي لتأسيس قيادة فلسطينية جديدة
كتب الفتياني في يومية الجمعة 5 آذار سنة 1943 م (29 صفر سنة 1362 هـ) عن لقائه في مكتبة مصطفى الطاهر(26)بيافا برشيد الحاج إبراهيم، وهو لقاء يتم لأول مرة في فلسطين بين الرجلين بعد عودتهما من المنفى، ويبدو من أقوال الفتياني أنّ علاقة ما ربطتهما حين كان الفتياني في حيفا، وأنّه لم يشاهده منذ ذلك الوقت. يهتم الفتياني بتدوين ما سمعه وعرفه عن نشاط رشيد السياسي، فيورد تفاصيل حول مشروع كان الأخير يعمل من أجل إنجازه، وهو تأليف هيئة قيادية جديدة في فلسطين، فيقول بأن رشيداً قد أسرّ "للأستاذ مصطفى الطاهر بأن (الزعماء) و(أولي الأمر) رأوا تأليف هيئةٍ سياسيةٍ عربيةٍ عليا من الوفد الفلسطيني الأخير الذي كان سافر إلى لندن للمفاوضة(27)، وأعضاؤه هم: راغب النشاشيبي، يعقوب الغصين، عوني عبد الهادي، موسى العلمي، فؤاد سابا، الدكتور حسين الخالدي، وعبد اللطيف صلاح، على أن ينتخب أشخاص بدلاً من ألفرد روك المتوفّى، وأمين التميمي وجمال الحسيني المعتقلين الآن في روديسيا. ويشاع بأن رفيق التميمي سيحل محلَّ أخيه، وأن نافذ الحسيني سيحل محل جمال."
يتابع الفتياني أخبار مساعي رشيد، فكتب في يوميةالثلاثاء9 آذار سنة 1943 م (3 ربيع الأول سنة 1362 هـ) أن مصطفى الطاهر جاء عنده قبل الظهر، وذهب وإياه إلى مكتبة فلسطين العلمية... وفي الطريق التقيا بعلي حيدر الحسيني الذي أخذ يحدثهما "باهتمام عن مشروع (تأليف الهيئة العربية العليا)، فقال أن رشيد الحاج إبراهيم اجتمع في أريحا بعدد من رجالات عائلة الحسيني وعرض عليهم فكرة بعث الهيئة من جديد فوافقوه مجاملة على فكرته، وقالوا له نحن لا نعارض في الفكرة ولكننا لن نشترك. وكان اقترح عليهم تعيين شخص من عائلة الحسيني بدلاً من الأستاذ جمال فقالوا له: ليست المسألة مسألة عائلية ولا مسألة وراثة، ونحن احتراماً لذكرى الغائبين لا نريد تعيين أحد بدلاً منهم. ومن أراد العمل فهذا المجال واسع أمامه." ويستنتج الفتياني من هذا "أن عائلة الحسيني لن توافق على المشروع الذيهو في نظرها حكومي من أوله إلى آخره. [التوكيد مضاف]" ويتابع الفتياني أخبار اجتماع رشيد بالحسينيين في أريحا، فيكتب في اليوم التالي (الأربعاء 10 آذارأن عبد الله نمر(28) زاره وحدّثه عن الاجتماع، "ومما قاله لي أن إميل الغوري كان أبو القضية وأمها هناك... وأن ثابت درويش أيضاً قد اشترك في المحادثات." ويبدو أن هذا لم يعجبه فيعلق ساخراً بأنّه "لم يبق إلا كلاب الحي ليحلفوا بالطلاق".
تستمر متابعة الفتياني للقضية، فيكتب في يومية الجمعة 19 آذار 1943 م (13 ربيع الأول 1362 هـ) مبيناً ارتباطها بالإنجليز، إذ يلتقي في ذات اليوم بتوفيق صالح الحسيني، شقيق جمال والقائم بأعمال رئيس الحزب العربي، وقد أخبر توفيق طاهراً أن المستر جايلز، رئيس دائرة الاستخبارات البريطانية في فلسطين، "استدعاه إليه وأطلعه على صورة فوتوغرافية لمنشور كان وزع في القدس وفيه دعوة إلى مقاطعة الفكرة التي دعا إليها رشيد الحاج إبراهيم وماتت في مهدها. وقال له أن هذا المنشور وضع بإيعاز منكم، فأنكر توفيق أفندي كل شيء، وقال نحن لا علم لنا بهذه الحركة من أولها إلى آخرها." فرواية الفتياني هذه تؤكد اعتقاده واعتقاد الحسينيين بأن الإنجليز خلف مساعي رشيد لتأسيس قيادة جديدة في فلسطين. وفي يومية الجمعة 9 نيسان سنة 1943 م (4 ربيع الثاني سنة 1362 هـ) يورد الفتياني تفاصيل أوسع حول فشل مشروع رشيد الحاج إبراهيم، وأنّه كان يتم بالتنسيق مع الحكومة، فيكتب عن لقاء جمعه والشيخ صبري عابدين (29)في الزاوية النقشبندية بأحمد حلمي باشا، ويقول أن الأخير "تحدث والشيخ صبري ملياً عن جهود رشيد الحاج إبراهيم في ’تجديد‘ الحركة الوطنية في البلاد ومساعيه المختلفة مع الحكومة (30)وبعض’الزعماء‘ لتأليف الحزب دون أن يصادفه التوفيق." ويعود في يومية الجمعة 25 حزيران 1943 م (22 جمادي الثانية 1362 هـ) للحديث عن مساعي رشيد، ويكتب عن لقائه برفيق بك التميمي، شقيق أمين التميمي، ويقول أنّه قضى عنده أكثر من ساعة يتحدثان في الشؤون الحاضرة. "وقال لي أن أحمد حلمي باشا ورشيد الحاج إبراهيم زاراه وأنه دار البحث حول إيجاد تشكيلات وطنية في فلسطين لإنعاش الحركة الوطنية." وواضح من أقوال الفتياني هذه أنّ أحمد حلمي باشا كان داعماً لمساعي رشيد.
تؤكد مصادر تاريخية أخرى التغير في موقف رشيد الحاج إبراهيم من بريطانيا، وتعاونه معها خلال الحرب، بعد عودته من منفاه في جزر سيشل،فقد شارك في الترويج لها خلال الحرب. كتب يوسف حنا (31)حرر جريدة فلسطين في كانون الثاني 1941 في مجلة هنا القدس، وهي مجلة دعائية أصدرتها إدارة محطة الإذاعة الفلسطينية ومكتب الإعلام العام التابع لحكومة الانتداب خلال الحرب، مقالة حول تحت عنوان العرب وبريطانيا(32)ضمنها مقابلاته مع عددٍ ممن أسماهم "رجالات العرب في فلسطين وشرق الأردن"، وقد استطلع آراءهم في الحالة العامة آنذاك، "على ضوء الانتصارات البريطانية في الصحراء الغربية"، مدعياً أنّه كان لهذه الانتصارات صدىً مستحباً في نفوس العرب". كتب يوسف حنا واصفاً لقاءه برشيد الحاج إبراهيموملخصاً رأي الأخير بالانتصار البريطاني في ليبيا وأنّه "حاسم، وأنَّه جاء فوق ما كان يتوقعه الناس،" وأوضح حنّا أنّ رشيد على خبرة فعلية بموقع بردية الليبي، وهو "يعتبر أن نجاح الانكليز فيها دلَّ على مهارة حربية لم تترك شكاً في تفوق الإنكليز في الفنون العسكرية، فضلا على ما لهم من تفوق في القوى والموارد." ويستطرد بأنّ رشيداً "يرى أن سقوط طبرق مضمون، لأنها دون بردية مناعة، وبعد سقوطها ينفتح الطريق لأخذ بني غازي، ويصبح للإنكليز الخيار في التقدم للاستيلاء على باقي البلاد في الحال، أو ترك ذلك إلى وقت آخر يعيونه هم. ويختم حنّا أقوال رشيد بذكر رأيه بأنّ "انتصار الانكليز في ليبيا هو إنقاذ لعرب تلك البلاد وفاتحة عهد جديد لهم من الحرية المنشودة والاستقلال الذي يصبو إليه كل عربي واستعادة لمجد العروبة وحضارتها. وهو يرجو أن ينال العرب جميعاً من الانكليز وخاصة عرب فلسطين جميع مطالبهم الوطنية، وأن يستقروا وإياهم على أساس أخير للتفاهم، ودوام الصداقة."(33)
يعكس مصدران آخران جوانب أخرى من شخصية رشيد الحاج إبراهيم، فمقابل الصورة السلبية التي يظهرها العرض السابق حول توجهات الأخير السياسية، يعكس مصدر آخر صورة مختلفة للرجل، ففي مذكرات المحامي الحيفاوي حنّا نقارة نعثر على صورة إيجابية عن النشاط السياسي والفكري لرشيد. يرسم نقارة لرشيد صورة الشخصية الوطنية غير الطائفية والحكيمة(34)، ويدوّن بعضاً من نشاطاته في حقل العمل الوطني الاقتصادي والسياسي. يقول نقارة أن رشيد انضم عضواً مؤازراً للنادي الأرثوذكسي في حيفا حين أرادت قيادة النادي الخروج من الإطار الطائفي والانفتاح على أتباع الديانات الأخرى.(35) كما أنه ألقى محاضرات في النادي ضمن سلسلة المحاضرات التي كان ينظمها للأدباء والمثقفين والسياسيين. (36)وعمل رشيد رئيساً لصندوق الأمة العربية وقد عقد اجتماع في سنة 1946 لتأسيس فرع للصندوق في حيفا.(37) ويشير نقارة لدور رشيد الحاج إبراهيم في تأسيس الجبهة القومية في حيفا أواخر سنة 1945، حيث عقد اجتماع تأسيسي في مكتب المحامي الاستقلالي صبحي الخضراء حضره رشيد وإميل توما وصلاح الدين العباسي والشيخ نمر الخطيب رئيس جمعية الاعتصام والشيخ محمد مراد رئيس جمعية الإخوان المسلمين.
أمّا المصدر الثاني فهو يوميات خليل السكاكيني، حيث يذكر في يومية الخميس 7 آذار 1946 أنّ أحمد حلمي باشا ورشيد الحاج إبراهيم زاراه في المساء ليسلِّما على عيسى العيسى الذي كان في ضيافته، ويقول السكاكيني "فهمنا من رشيد الحاج إبراهيم أن ولده شهر السلاح عليه وهو سكران، فما كان من الأب إلاّ أن أطلق الرصاص عليه، فجرح جرحاً بليغاً. فنقل الآن إلى المستشفى في حالة سيئة، وأما الأب فيروح ويجيء كأن لم يقع شيء. إن ذا لعجيب."(38)
أحمد حلمي باشا(39):
دوّن الفتياني أخبار أحمد حلمي ونشاطاته السياسية في يومياته، واهتم بصورة خاصّة بأخبار محاولة الباشا تأليف حزب سياسي جديد في فلسطين، فكتب في يومية الثلاثاء 30 آذار 1943 م (24 ربيع الأول 1362 هـ) ما قيل له من "أن أحمد حلمي باشا بدأ تفكيراً جدياً في تأليف حزب في البلاد. وقد كان في يافا منذ أيام حيث عقد اجتماع في دار بنك الأمة العربية حضره بعض أعوانه، ومنهم رشاد الشوا، ودعي مصطفى الطاهر لحضوره فلم يكن في يافا." ويكتب في يومية الاثنين 5 نيسان 1943 م (30 ربيع الأول 1362 هـ) أن اسحق الشاكر [الحسيني]، جاء عنده وأنكر "الإشاعة القائلة بأن أحمد حلمي باشا يريد تأسيس حزب، فقد قابله وقال له الباشا أن كل ما يقوله الناس لا صحة له ولا أستطيع أنا تكذيبه." وأضاف اسحق الشاكر لمعلومات الفتياني "أنّ حزباً جديداً من الشباب سيؤلف في فلسطين قوامه إبراهيم الشنطي، وفريد السعد، الذي استقال من منصب القائمقام منذ شهرين، وخلوصي الخيري، الذي سيقدم استقالته قريباً ليتفرغ للاشتغال في الحقل السياسي!" وحسب الشاكر فإنّ "هذا الحزب هو صنيعة الحكومة."
ويكتب الفتياني في يومية الجمعة 4 حزيران 1943م (2 جمادي الثانية 1362 هـ) حول تصريح أدلى به الملك عبد العزيز آل سعود يؤيد فيه الحق الفلسطيني، فيذكر أنَّ من بين الذين أبرقوا إلى القنصلية السعودية لشكر الملك أحمد حلمي باشا وصبحي الخضراء وعوني عبد الهادي وعمر الصالح البرغوثي والشيخ سعود العوري والشيخ موسى البديري والشيخ صبري عابدين والشيخ محمد علي الجعبري ورشدي الشوا.
تتوثق العلاقة بين الفتياني والباشا وتزداد حميمية، ويقرر الفتياني تنظيم لقاءٍ ترويحيٍّ وحفلة شاي لأصدقائه في دير الكريمزان في بيت جالا يوم الجمعة 18 حزيران 1943 م (15 جمادى الثانية 1362 هـ) على شرف مهدي بك مصلح مدير الأمن العام في الحجاز، والذي كان يزور القدس، وفي يوم الثلاثاء 8 حزيران سنة 1943 م يمر الفتياني على أحمد حلمي باشا لدعوته، وقد وعده الباشا بتلبية الدعوة إذا لم يسافر إلى عمان. ويجد الفتياني عنده عيسى البندك فيعلق بالتساؤل: "ماذا يصنع هذا الخاسر؟"(40)
يتابع الفتياني تدوين أخبار المدينة، ونشاطات سياسييها، ومنهم الباشا، فيكتب في يومية الأربعاء 9 حزيران سنة 1943 م أنّه وصل صباحاً للقدس زعيم حزب الوفد المصري مصطفى النحاس باشا، ويلاحظ أنّ استقباله في محطة القدس كان فاتراً، "والمستقبلون يعدون على أصابع الأيدي، بينهم أحمد حلمي باشا و[عبد الحميد] شومان ومحمد يونس [الحسيني] وفريد السعد والشيخ [يعقوب] البخاري والشيخ صبري عابدين ومصطفى وخليل بدر الأنصاري وموظفو القنصلية،" ويتبع ذلك بذكر أنّ النحّاس حلّ في فندق الملك داوود، وأنّه سيقضي ثلاثة "أيام في فلسطين وسيزور يافا غداً، وبعد غد المسجد الأقصى."
وفي يوم الخميس 10 حزيران 1943 م يزور الفتياني أحمد حلمي بعد أن كان قد مرّ بالقنصيلة السعودية، وعلم من قنصلها الشيخ عبد العزيز الكحيمي ما أغضبه، إذ أنّ الأخير دعا الضيف السعودي مهدي بك مصلح إلى مأدبة غداء ظهر ذات اليوم في دار القنصيلة، كما دعا إليها مصطفى بك الخالدي وراغب النشاشيبي وقناصل العراق وإيران وتركيا وأحمد حلمي باشا وروحي عبد الهادي [وعوني] عبد الهادي والشيخ عبد الحميد السائح قاضي القدس، وعمر الصالح البرغوثي ونجيب أبو الشعر وعيسى البندك، مستثنياً الفتياني والشيخ يعقوب البخاري(41). وقد اعتذر القنصل بأنه لم يدع الرجلين لضيق المكان في القنصلية، ويقبل الفتياني هذا العذر، ولكنه يحتج بإنّه أولى من عدة مدعوين، فقد "كان في مقدوره أن يستغني عن [نجيب] أبي الشعر أو [عيسى] البندك أو عمر الصالح؟" ويختم تعليقه على المسألة بالقول "إنني في كل يوم أشعر بغرابة أطوار هذا الرجل ورعونته وصغر عقله." وحين يقابل الباشا يشكو له "من سوء تصرفات الشيخ الكحيمي وغرابة أطواره،" ويبدو أن الباشا لم يكن هو الآخر سعيداً بتصرفات القنصل إذ أنه يوافقه عليها جميعاً. ويستطرد الفتياني بالقول أنّه ذكر "للباشا أن القنصل سيرأس حفلة لنقابة الممثلين في جمعية الشبان المسيحية!" ويعلّق مستغرباً "فما دخل القنصل المسلم في التمثيل وفي دخول أكبر دار للتبشير في الشرقين الأدنى والأوسط؟"(42)
يتطرق الفتياني في يومية الجمعة 18 حزيران إلى اللقاء الذي جرى في دير كريمزان، حيث قضى المدعوون(43)بعض الوقت، ويكتب أنِّ الباشا أخذ بعض أغصان من شجرة الفستق لتركيبها في بيارته. وحين اجتمعوا في بيت الفونص منصور، صاحب المكان، "شربنا القهوة، ونعمنا بأطايب الطبيعة، وحدثنا الباشا عن ذكرياته في سيشل، وحاول القاضي [عبد الحميد السائح] أن ينتقد الحالة في الحجاز فامتعض مهدي بك وحمل عليه." ويذكر في ذات اليومية أن مدير شؤون الشرق الأوسط في وزارة المستعمرات بلندن جاء إلى القدس في الأيام القليلة الماضية وقابل الباشا وراغب النشاشيبي وشبلي الجمل ونافذ الحسيني، ويضيف بأنّ الباشا كان "صريحاً معه كل الصراحة." أي أنّه عبّر عن الموقف الوطني دون مواربة أو رياء. ويضيف الفتياني أنّ ثلاثاً من الشخصيات السياسية اعتذرت عن مقابلة المسئول البريطاني، "وهم موسى العلمي لغيابه عن القدس وعوني عبد الهادي ويعقوب فراج لمرضهما." وفي ذات اليومية يكتب الفتياني عن ما أبلغه إيّاه عمُّه داوود، نقلاً عن لسان محمد يونس الحسيني، والذي كان يعمل مع أحمد حلمي باشا، أن الأخير يحبه كثيراً، وأنّه يريد أن يسند له وظيفة (سكرتير صندوق الأمة). ويعقّب بنقل رأي عمِّه بأنَّ العمل مع الباشا أضمن من العمل بالتدريس في المدرسة الإبراهيمية، والذي كان معروضاً عليه، ولكنه يستدرك بالقول أنّ الباشا لم يفاتحه في هذا الموضوع.
يعود الفتياني لموضوع الحزب الجديد فيوضِّح في يومية الجمعة 25 حزيران 1943 م بناءً على معلومات استقاها من مصطفى الطاهر أنّ قوام الحزب الجديد الذي سيؤَلَّف في فلسطين "أحمد الشقيري وفريد السعد ورشاد الشوا! وستكون له فروع في مختلف أنحاء فلسطين." وعلى ما يبدو فإنّ أحد هذه الشخصيات لم يكن محبوبة من قبل طاهر، فيحاول تحريض الباشا حين التقى به يومالأربعاء 30 حزيران سنة 1943 م (26 جمادي الثانية سنة 1362 هـ) على رشاد الشوا، فكتب: "مررت بعطوفة الباشا أحمد حلمي وحدثته كيف أن رشاد الشوا الذي يريد أن يؤسس حزباً ويستغل اسم عطوفته لبث الدعاية لنفسه وللترويج لحزبه." ويتحدث الفتياني في نفس اللقاء مع الباشا، وبوحي من حديث عمّه السابق، حول صندوق الأمة مقترحاً إعادة إحيائه، ولكن الباشا يقول له بصراحة "أن الوقت لم يأن بعد وسيجد الفرصة المناسبة لتجديد شبابه." ويبدو أن الباشا لم يعلّق على مسألة رشاد الشوا وتأليفه لحزب جديد، وانتقل بالحديث ليبثّ للفتياني ألمه من صهره عبد الحميد شومان، "وكيف أنه دائماً يطعن فيه ويحمل عليه حملات قاسية حتى أنه وهو في دمشق حمل بشدة على الباشا، فاستنكر بعض الحضور، وكانوا مدعوين لتناول الطعام معه فأبوا أن يجتمعوا به." ويضيف الفتياني بأنّ الباشا حدثه بمرارة عن إبراهيم الشنطي وشوكت حماد "وذلك لمناسبة مقال افتتاحي نشره إبراهيم في "الدفاع" مجد فيه بطولة شومان وجعله من أبطال التاريخ."
تظهر يوميات الفتياني استمرار علاقة التعاون والاحترام المتبادل بينه وبين الباشا، ففي يوم السبت 10 تموز 1943 م (7 رجب 1362 هـ) يزور الفتياني الباشا في مكتبه، ويعطيه بياناً كان طلب منه إعداده "بشأن تجديد نشاط صندوق الأمة"، ويقول أنّه أعجب به. ويتناول الفتياني في اللقاء إمكان جعل المدرسة الإبراهيمية، والتي كان الفتياني قد قرّر التدريس بها، تحت إشراف الجمعية الخيرية الصلاحية التي يرأسها الباشا، أو أي جمعية خيرية أخرى يرى تأليفها تحت إشرافه، "وذلك ليتسنى للمدرسة أن تنال المساعدة الحكومية التي تقدمها إدارة المعارف للمدارس التي تعمل تحت إشراف جمعيات خيرية." يبدي الباشا استعداده لتقديم كل ما تريده المدرسة من خدمات ويبلغ للفتياني "أنّ الجمعية الصلاحية أو أية جمعية أخرى هي تحت تصرف الخدمة العامة." وتواعد الرجلان على اللقاء وبحضور مدير المدرسة، نهاد أبو غربية، في يوم الاثنين للبحث في الموضوع. ويتابع الفتياني التدوين حول موضوع المدرسة فيكتب في يومية الثلاثاء 13 تموز سنة 1943 م (10 رجب سنة 1362 هـ) أنه التقى والأستاذ نهاد أبو غربية بالباشا، "وكان عنده ثابت الخالدي ونجل شقيقته (نجل الدكتور حسين الخالدي) وتحدثت مع الباشا بشأن المدرسة الإبراهيمية فوافق على أن تكون تحت إشراف الجمعية الخيرية الصلاحية، وهي مؤلفة من الباشا وجميل وهبة ومحمد عبده حلمي ومحمد يونس الحسيني، وسيقدم الأستاذ نهاد كتاباً إلى الباشا باعتباره رئيساً للجمعية يطلب فيها أن تكون [المدرسة] تحت تصرف الجمعية."
تزداد قوة العلاقة بين الرجلين، فيكتب الفتياني في يوميةالخميس 9 أيلول 1943 م (9 رمضان 1362 هـ) عن زيارته للباشا، والذي قال له "بعد حديث طويل عريض، أنه يريد تأليف حزب جديد من الدهماء(44)هو حزب الشعب"، وحيث أن الفتياني مقرّب من الدائرة الحسينيّة، يطلب منه الباشا أن يجس نبض المجلسيين معللاً طلبه بأنّه "بغير تعاونهم لا يحصل على النجاح المقصود." ويجيء ذكر إميل الغوري، ونافذ الحسيني، فيعد الفتياني بأنه سيجس نبضهما، وسيتحدث معهما في الموضوع ويوافي الباشا بالنتيجة. يستطرد الحديث بين الرجلين فيتطرق الباشا لزيارة عمر الصالح البرغوثي له، إذ جاءه يطلب منه تأليف حزب، محتجاً بأنه "لا يصح السكوت الآن"، ويستفيض الباشا في شرح ماضيه ومواقفه السياسة، "وكيف أن الحكومة والمعارضين، حاولوا حمله على العمل في الميدان السياسي، فأبى".
يتابع الفتياني الموضوع فيلتقي صباح الجمعة 10 أيلول 1943 م (10 رمضان 1362 هـ) إميل الغوري في أحد مقاهي القدس، ويحدثه بالتفصيل عما دار بينه وبين الباشا، "واتفقنا على زيارته للبحث معه بالتفصيل حول فكرته التي يريدها، وهي تأليف حزب الشعب العربي." ويذهب الرجلان فعلاً يومالسبت 11 أيلول سنة 1943 م (11 رمضان سنة 1362 هـ) عند الباشا، والذي يعيد لإميل ما كان قاله للفتياني يوم الخميس. "وقد لحظنا إخلاصاً في كلامه ورغبةً في العمل، وهو يرى أن يشترك جميع عناصر الأمة في الحزب خوفا من المقاومة الخارجية والدسّْ، وقال أنّ بعض الخوارج الذين سيدعون (بلا نِفس) إلى الحزب سيخرجون حينما يرون أنفسهم بلا نصير." ويعلِّق الفتياني على فكرة الحزب فيقول "أما أنا فأخشى أن يصير هذا الحزب كطنجرة الشوربة أو كبرج بابل... وأن تتصادم العناصر المختلفة فيه فلا نخرج بنتيجة."ولا يتوقف الفتياني عند حد التعليق، بل يمر ظهراً بتوفيق صالح الحسيني، القائو بأعمال رئيس الحزب العربي، ويشرح له ما جرى باللقاء بينهم الثلاثة، وينقل إلى يومياته رأي توفيق بأنّه "لا يرى بأساً من مداراة بعض العناصر، ولكنه [توفيق] يتساءل: ’هل نضمن الباشا من أنّه لن يؤثر عليه أشخاص كانوا وما زالوا يلازمونه كالظل أمثال عيسى البندك وعوني عبد الهادي؟‘" ويتفق الرجلان على الإجتماع لبحث الموضوع "غداً مساءً حوالي الساعة الثامنة في منزل توفيق صالح الحسيني. وأن يكون الحضور كل من السادة: توفيق صالح، رجائي [الحسيني]، مصطفى ونافذ وعلي [محي الدين] الحسيني، إميل الغوري، جميل الشهابي، عبد الرحيم الطوبجي، الشيخ صبري عابدين والعبد الفقير لله."
يستمر الفتياني في سرد الأحداث المتعلقة بقضية الحزب ومسألة تأسيس هيئة تمثيلية، فيروي أنّه في يوم الأحد 12 أيلول سنة 1943 م (12 رمضان سنة 1362 هـ) استدعاه أحمد حلمي باشا وأبلغه أنه ذهب أمس السبت مع الدكتور سامح بك الفاخوري وقابل سعيد بك الحسيني، "فقال له هذا أنه يرى أن أفضل هيئة تمثل البلاد هي تجديد نشاط الوفد الفلسطيني، على أن يعين أعضاء بدلاً من الغائبين أو الذين ماتوا. فإميل الغوري يعين بدلاً من فؤاد سابا، ورفيق التميمي بدلاً من أمين بك، ونافذ بدلاً من جمال.. وهكذا.." وقد علّق الباشا رافضاً ما طرحه سعيد الحسيني ومعللاّ ذلك بأنّ "هذه الفكرة لا يمكن تطبيقها لأنه لا يستطيع التجانس مع أمثال عبد اللطيف صلاح وراغب [النشاشيبي] وعوني [عبد الهادي]"، وقد أخذ الفتياني على عاتقه إبلاغ رأي الباشا إلى جماعة الحسينيين. ويعود الفتياني للتعليق على فكرة الباشا بتأسيس حزب جديد، فيقول "أما فكرة الباشا فأعيد القول بأنها فكرة لن يقبل بها المخلصون منا. إذ كيف نشتغل مع عيسى البندك أو عوني. وأساس العمل المنتج هو التجانس فأين التجانس؟" وفي نفس اليوم يقضي الفتياني بعض الوقت مع إميل الغوري، ويتفق وإياه أن يقابلا في اليوم التالي جميل أفندي الشهابي والشيخ صبري عابدين، وهما من الكتلة الحسينية، ليبحثا معهما في الموضوع.
يتوجه الرجلان في اليومالتالي (الاثنين 13 أيلول 1943 م – 13 رمضان 1362 هـ) لمنزل الشيخ صبري عابدين، وحسب رواية طاهر: "تحادثنا فيموضوع الباشا، والحزب الذي يريد تأليفه، وهو [الشيخ صبري] يرى أن قبول البلاد بتأليف حزب جديد معناه قبولها بإلغاء اللجنة العربية العليا، ورفض العمل في حزب إلا على أساس التجانس." ويتابع الفتياني وإميل جولتهما فيذهبا إلى بيت صبحي الشهابي، والذي"كان رأيه مماثلاً لرأي الشيخ صبري إنما كان أعمق تفكيراً وألين عوداً، وأكثر لباقة." ويستكمل الفتياني سرد تفاصيل تطور القضية، فقد كان وإميل الغوري متفقين في ذات اليوم على اللقاء في مقهى ’المختار‘ ليذهبا سوية إلى دار توفيق صالح الحسيني "حيث نعقد اجتماعاً بحضور نافذ وعلي ومصطفى محي الدين ورجائي.. ولكن جاءني في المساء الحاج فائق الأنصاري، موفدا من قبل السيد توفيق يقول أنه لا لزوم للحضور هذه الليلة.." ويستنتج الفتياني من ذلك "أن القوم لا يريدون التفاهم، وأن توفيق صالح حينما اندفع في الكلام وتحمس كان لا يمثل إلا نفسه فقط." وصدفة يجتمع عند العصر عبد الرحيم الطوبجي بعبد السلام، شقيق طاهر، ويقول له: "سلِّم على الفتياني وقل له أن يخيِّط بغير هذه المسلَّة"، ويعلّق الفتياني على هذه الرسالة بأنّه فهم منها مغزى حديث كان قد دار بين عبد الرحيم وتوفيق صالح وعلي الحسيني. أي أنّ الحسينيين لا يريدون بحث الموضوع ويعتبرونه منتهياً، ولا يريدون للفتياني أن يقوم بمساعي متعلقة به. ولعلّ ما يرويه يضيء لنا طريقة الحسينيين في اتخاذ القرارات، وابتعادهم عن أسلوب الحوار الديمقراطي والمفتوح. ويعزز هذا الاستنتاج ما ذكره الفتياني في يومية الثلاثاء 14 أيلول 1943 م (14 رمضان سنة 1362 هـ) حيث يذكر لقاءه بإميل الغوري وقد أبلغه الفتياني بأنّه سيقابل توفيق الصالح الحسيني في ذات اليوم، وأخذ الاثنان يعللان "سبب العدول عن الاجتماع الذي تقرر عقده ليلة أمس في دار أبي صالح.. وبالفعل ذهبت عند أبي صالح في الحرم فقال لي-وعبد الرحيم الطوبجي يسمع ما يقول- إن قومه لا يرون من الفائدة في الظروف الحاضرة الانشغال بالسياسة أولا لأنهم لا يتجانسون بأية حال معالمارقين أمثال عيسى البندك وعوني عبد الهادي وعمر الصالح، وثانيا لأن الحكومة لا تسمح بأن يشتغل أحد خلافاً لرغبتها."
تستمر العلاقة بين الفتياني والباشا رغم فشل مساعي كسب الحسينيين لصالح فكرة تأليف حزب جديد، ويتعاون الفتياني مع الباشا، بناءً على طلب الأخير، في كتابة رسالة احتجاجية على تصريح للرئيس الأمريكي روزفلت أرسله والمستر كوردل هل والمستر مورجانتو إلى المؤتمر الصهيوني السادس والعشرين الذي عقد في الولايات المتحدة، واقترح الباشا إرسال الاحتجاج إلى قنصل أمريكا العام في القدس، وكان ذلك يوم الأربعاء 15 أيلول 1943 م (15 رمضان 1362 هـ)، ويقول الفتياني أن صحته كانت على غير ما يرام، فوعده بإعطائه نص الاحتجاج في الغد، وهو اليوم الذي يتناول فيه الفتياني طعام الإفطار الرمضاني في بيت الباشا بحضور القنصل السعودي،الشيخ عبد العزيز الكحيمي، والشيخ يعقوب البخاري، شيخ الزاوية البخارية، والدكتور حسين الخالدي، رئيس بلدية القدس المعزول، والدكتور محمد الداودي ومحمد يونس الحسيني والدكتور منصور قدارة. يقوم الباشا بإرسال الكتاب، ويأتيه الرد من القنصل الأمريكي، وفيه "ينكر أن هذه التصريحات سياسية ويقول أن الباشا أساء فهم مضمون الرسائل الشخصية"، وقد طلب الباشا من الفتياني "أن يعلق على كتاب القنصل بكتاب آخر نبعث به إليه، فوعدته إلى يوم السبت." ويقوم الفتياني في يوم السبت 25 أيلول 1943 م (25 رمضان 1362 هـ) بإعطاء أحمد حلمي باشا الرسالة التي طلبها، ويقول الفتياني أنّه أكد "في الرسالة تحيز المستر روزفلت لليهود، وذكرت أن’الوطن القومي اليهودي‘ هو السبب في كل ما لحق بالبلاد من نكبات... فكيف يقول القنصل أن رسالة روزفلت لا دخل لها بالسياسة، بينما هي تتدخل في صميم السياسة." ويستطرد الفتياني في سرد أخبار أحمد حلمي باشا، فيقول أنّه "ذاهبٌ اليوم إلى الرملة مع الدكتور عبد الوهاب عزام لتناول طعام الإفطار على مائدة يعقوب بك الغصين، وذكر لي الباشا أن إميل الغوري زاره في الأسبوع الماضي وقال بأنه سيتباحث مع جماعته الحسينية بشأن تأليف حزب سياسي للعمل المشترك، بعد رمضان،" ثمّ يعلّق ساخراً: "أي حينما يطلع البطيخ."
تدل متابعة الفتياني لموضوع التشكيل الجديد للقيادة الفلسطينية أنّ مساعي رشيد وأحمد حلمي لم تتوفق، فيتابع مساعيهما لعقد مؤتمر وطني بالقدس، فيكتب في يومية الجمعة 13 تشرين الأول 1943 م (14 ذي القعدة 1362 هـ) أنّ الباشا استدعاه إلى البنك العربي، وحين قابله وجد عنده رشيد الحاج إبراهيم، "تحدث إليَّ الباشا طويلاً عن المؤتمر وأغراضه وكيف أنه عمد إليه بعد أن أعرض الحسينيون عن معاضدته، وقال أنه يريد أن يسير في طريقه مهما كانت العقبات، ثم أطلعني على كتاب بعث إليه إميل الغوري بالنيابة عن المجلسيين، وفيه يقول أنهم يقبلون أن يشتغلوا مع الباشا على شرط ألا تكون هناك أية علاقات مع دولة أجنبية (يعنون بذلك الانكليز)! وأن يكون كل مرجع في الأبحاث مكتب السكرتارية." ويعلّق الفتياني بالقول: "وإذا علمت أن إميل الغوري هو السكرتير أدركت كل شيء." وواضح من هذا الاشتراط بأنّ الحسينيين أرادوا الهيمنة على الكيان المقترح، وقد فهم الدكتور حسين الخالدي هذا الأمر، إذ يضيف الفتياني بأنّ هذا الشرط جعله "يرغي ويزبد ولا يقبل الاشتغال أو الاشتراك في العمل الوطني الجديد." يورد الفتياني تفاصيل أخرى تتعلق بالمقترحات والنقاشات حول تشكيلة الجسم الجديد فيقول أنّه "بحث في من يخلف الأموات والغائبين، فانتخب الحسينيون محمد الراغب بدلاً من جمال [الحسيني]، ويوسف صهيون بدلاً من الفرد روك، وإميل الغوري بدلاً من [جورج] أنطونيوس، ورفيق التميمي بدلاً من أخيه أمين بك، ورشيد الحاج إبراهيم بدلاً من عزة دروزة. ويبقى منصب الرئاسة شاغراً." ويعلّق الفتياني على هذه الأسماء بالقول أنَّ انتخاب محمد رفيق الراغب الحسيني "هو الشيء المضحك المبكي في القضية. فهل أصيب الحسينيون بعقم حتى رشحوا هذا الشخص؟ وهل يستنكف علي أو نافذ أو إبراهيم سعيد عن العمل في اللجنة الجديدة؟" ويضيف الفتياني أنَّ راغباً النشاشيبي فوتح في موضوع الاشتراك في اللجنة الجديدة، فكان أن أصَّر على أن يكون لحزبه أربعةٌ من الممثلين، ويستنتج الفتياني بأنّ معنى هذا الاشتراط "أنه لا يريد أن يشتغل."
يلتقي الفتياني يوم الجمعة 22 تشرين الأول 1943 م (23 شوال 1362 هـ) بالباشا، فيبلغه الأخير أنه قابل منذ أسبوع علي بك الحسيني في بيته، ويعرب عن رأيه بأنّه لا فائدة ترجى من العمل الوطني مع علي بك ومع جماعته الحسينية، ويبلغ الباشا طاهراً بأنّه عازم على تأليف حزب من الدهماء من الشعب، فيسأله طاهر: "وكيف يمكن العمل بلا تجانس؟" ويستطرد الفتياني في سرد تفاصيل الحوار، فيذكر أنّه جاء أثناء اللقاء عوني بك عبد الهادي، ويدور بين الثلاثة حديث طويل عن ضرورة العمل، وضرورة عدم التهاون في العمل الوطني. وينتهي اللقاء بأن يذهب الباشا وعوني بك إلى فندق الملك داوود لمقابلة الأستاذ محمود أبو الفتح(45)، ويعتذر الفتياني "لأن هذا المتلون امتدح اليهود في العام الماضي.. وأقيمت له حفلة في نادي الصحفيين اليهود وكانت حوله جماعة من الحور العين... فسال لعابه وأظهر ألمه لأنه لا يجيد التكلم باللغة العبرية ووعد الحاضرين بأن يكلمهم بلغتهم في العام المقبل."
يتبين من يوميات الفتياني أنّ الباشا كان راغباً في استمرار العلاقة والتلاقي بينهما واستمرار العمل معه(46)، وأنّه كان مستعداً لتقديم المساعدة للفتياني حتى لو كان ذلك بإصدار وثيقة مجانبة للحقيقة.(47) كما يتبين أن الفتياني كان يتابع أخبار الباشا حتى الاجتماعية والعائلية منها. (48)
عوني عبد الهادي
لم يكن عوني عبد الهادي خلال حياته السياسية على انسجام مع الحاج أمين الحسيني، فلم يكن يعتقد بقدرة الحاج على قيادة الحركة الوطنية، كما لم يكن راضياً عن طرقه في التعامل مع الآخرين، وفي إدارة العمل الوطني،(49)وعلى ما يرويه عزة دروزة فإنّ قيادة عوني عبد الهادي لحزب الاستقلال والتنافر بينه وبين الحاج أمين منع الانسجام بين الأخير وبين الحزب، وإلى وقوفه ضده ومحاربته له دون هوادة. في المقابل فإنّ المفتي وأنصاره، كما تدل تعليقات كتبها محمد اسحق درويش، ابن أخت الحاج أمين وكاتم سرّه ويده اليمنى، في مذكراته المخطوطة(50)لم يكونوا يثقوا بعوني عبد الهادي، ويروي درويش ما يفيد بأنّ عوني كان على استعداد للتفريط بالقضية، ففي إحدى هذه التعليقات يكتب درويش حول لقاء جمع البريطاني هوار رامبولد، أحد أعضاء لجنة بيل التي اقترحت تقسيم فلسطين سنة 1937، وكان صديقاً للأمير محمد علي ولي عهد مصر، وحاييم وايزمن مع عوني عبد الهادي، أثناء مرور وايزمن في مصر سنة 1938، وفي الحديث بين عوني ووايزمن، "قبل عوني أن يبلغ عدد اليهود في فلسطين 40% ووافق وايزمن"، وقد أعلن رامبولد الاتفاق في لندن بواسطة أعضاء مجلس اللوردات وطلب حل قضية الهجرة وفلسطين على هذا الأساس. ويقول درويش أنّه لما بحث مع عوني في هذا الموضوع "قال أنا لم أوافق ولكنني سكت". وقد اتهم أنصار المفتي عوني بإضفاء غطاء قانوني على صفقة بيع وادي الحوارث، وقد نشرت جريدة الحسينيين الجامعة العربيةبتاريخ 10 نيسان 1935 هذا الاتهام الصريح.(51) ويكتب درويش في مذكراته ما يؤكد هذا الاتهام.(52) كما أنّه ينعى على احتجاجه واعتراضه على اغتيال اثنان من عائلة ارشيد في أيار 1938، واغتيال حسن صدقي الدجاني من قبل الثوار، على اعتبار أنّ هذا يعمّق الانقسام بين الفلسطينيين ويشغلهم بقتل بعضهم البعض، بينما يعتبر درويش أن قتل المعارضين للثورة أمر مشروع.(53)
يظهر عوني في يوميات الفتياني، كما يتبين من العرض السابق، خلال حديثه عن مساعي أحمد حلمي باشا لتشكيل جسم سياسي جديد، ولا يظهر في هذه اليوميات أن الاحتكاك بين الرجلين كان كثيراً أو متعمداً، فالفتياني يتطرق لعوني خلال متابعته للأحداث السياسية في القدس، ولنشاطات رجالها السياسية، فيظهر ذكره مثلاً في يومية الثلاثاء 24/11/1943 م(54)، في معرض حديث الفتياني عن وجود الأمير عبد الله بن الحسين في القدس، وأنَّ عدداً من الوجوه كانوا "مدعوين عنده في فندق الملك داوود حيث تناولوا طعام العشاء،" ويذكر من بينهم عوني عبد الهادي، ويتبع اسمه بعلامة التعجُّب(55). ويتابع الفتياني أخبار عوني فيكتب في يومية السبت 19/1/1944 م عن مشاركته في وليمة الغداء التي أقامها شاكر بك الداودي في القدس على شرف نوري باشا السعيد رئيس الوزارة العراقية، وقد استقى خبر الوليمة من علي محي الدين الحسيني والذي كان من بين المدعوين، وقد صادفه الفتياني في القدس قادماً من أريحا. ويسرد الفتياني أسماء أشخاص آخرين ممن حضروا الوليمة فيذكر راغب النشاشيبي وحلمي باشا وموسى العلمي وحسين الخالدي ويعقوب الغصين ورفيق التميمي وعمر البرغوثي، ويعلّق على الأمر فيقول: "فهمت أنه دعي أعضاء الوفد الفلسطيني إلى لندن أو من ناب منابهم... ولكن ما معنى أن يدعى عمر الصالح؟ وما محله من الإعراب!؟ هذا الأول وثانياً كيف سمح علي محي الدين، وهو الوطني المتطرف، لنفسه أن يجتمع بنوري السعيد ومن حوله راغب النشاشيبي وعوني وعمر الصالح! حقاً لو فعل غيره هذا العمل لعد خائناً متطرفاً." ويدل هذا التعليق على تساوي عوني عبد الهادي براغب النشاشيبي، الخصم التاريخي للحاج أمين والحسينيين، عند طاهر الفتياني، كما يدلّ هذا على اعتباره جميع المذكورين خارجين عن الصف الوطني.
مؤتمر الغرف التجارية
سعى الاستقلاليون لعقد مؤتمر للغرق التجارية الفلسطينية، وكانوا يأملون أن ينتج عنه حراك سياسي يؤدي إلى إعادة تنظيم الحركة الوطنية داخل فلسطين، وإعادة تشكيل القيادة السياسية، وقد عمل على تنظيم هذا المؤتمر عوني عبد الهادي، ورشيد الحاج إبراهيم وكان رئيساً للغرفة التجارية في حيفا، وأحمد حلمي باشا. كتب الفتياني في يومية الخميس 12 تشرين الثاني سنة 1943 م (13 ذي القعدة 1362 ه) واصفاً المؤتمر:
اليوم عصراً انعقد مؤتمر الغرف التجارية العربية الخامس عشر بحضور مندوبين من جميع أنحاء فلسطين، ودار البحث حول مواضيع اقتصادية ووطنية، أما الاقتصادية منها إلغاء النقط، وتسهيل المواد الخام للمستهلكين العرب، وإلغاء ضريبة الحرب والخ.. وأما المواضيع الوطنية فالدعوة إلى مؤتمر عربي تعنى لجنته التنفيذية بتنفيذ مقررات المؤتمرات العربية السابقة، وأن يكون أعضاؤها من اللجنة العربية العليا والوفد الفلسطيني إلى لندن وغيرهم ممن تنتخبهم الأمة، وألقيت فيه خطب عن الأراضي والهجرة وصندوق الأمة. أما المجلسيون فواضح أنهم لا يؤيدون هذا المؤتمر ولا ينظرون إليه نظرة وطنية.
هذا وقد حضر المؤتمر المذكور عدا أعضاء الغرفة التجارية، عوني عبد الهادي، ومغنم مغنم، وعيسى البندك، وتكلم عوني عن الكتاب الأبيض والهجرة."
ثمّ يعلّق على موضوع الهجرة فيقول: "وعلى ذكر الهجرة نشرت البرقيات أن وزير المستعمرات قد سمح لأكثر من ثلاثين ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين، وذلك على قدر ما تتحمل البلاد وقد احتج المؤتمر لدى الحكومة على هذا السماح."
ويعود الفتياني يوم السبت 14 تشرين الثاني 1943 م (15 ذي القعدة 1362 ه)الشيخ صبري عابدين من المرض "فقد مضى عليه بضعة أيام وهو يشكو الزكام،"ويتحادثانفي موضوع مؤتمر الغرف التجارية، واللجنة العربية الفلسطينية المزمع تأليفها على أنقاض اللجنة العربية العليا. ويستهجنانترشيح محمد رفيق الراغب الحسيني لمنصب عضو اللجنة بدلاً من جمال الحسيني. وكان من رأي الشيخ عابدين أن أحسن ما في المقررات: تنفيذ مقررات المؤتمرات السابقة والتقيد بها.
ولا يفوت الفتياني أن يدوّن في يومية الاثنين 23 تشرين الثاني 1943 م (24 ذي القعدة) أنّ من المضحكات التي سمعها في ذلك اليوم هي "أن اللجنة التحضيرية التي ألفت الدعوة إلى مؤتمر وطني والتي قوامها رجال الغرفة التجارية العربية وأصحاب الصحف العربية قد وجهوا الدعوة إلى جمال الحسيني وأمين التميمي! ... بواسطة إميل الغوري في مكتب فرج الله(56)... وهم يقصدون بذلك رفع العتب. فحيث أن الحزب العربي الفلسطيني لم ينتخب من يحل محل جمال وأمين التميمي... لذلك وجهوا الدعوة... على اعتبار أن ينتخب الحزب من يمثل هذين الشخصين في المؤتمر المزعوم."
عجاج نويهض والإذاعة الفلسطينية
كانت الإذاعة الفلسطينية وإذاعة الشرق الأدنى، والتي أُنشئت خلال الحرب لبث الدعاية للإنكليز، مسرحاً للتناقضات الداخلية بين أعضاء النخبة الفلسطينية، فحزب المفتي اعتبر العمل في الدعاية للمجهود الحربي البريطاني خروجاً عن أصول الوطنية، فيما اعتبره آخرون ضرورة من الضرورات وفرصة لخدمة القضية والشعب (57)ويشكل تولي عجاج نويهض، أحد مؤسسي حزب الاستقلال، إدارة القسم العربي فيها مسألة تستوجب التأمل، كون الحزب رفع خلال نشاطه السياسي شعار مقاطعة الحكومة الانجليزية وعدم التعاون معها في أية مجال، كما أنّ الحزب لم يكن يشجِّع العمل مع الحكومة، ونستحضر في هذا السياق موقف أكرم زعيتر خلال وجوده في تركيا فارّا من بطش الإنجليز، إذ رفض عرضاً ألمانياً لإدارة الإذاعة العربية في أثينا، معللاً ذلك بأنّه لا يقبل التكليف إلاّ من جهة عربية، وحسب عباراته: "فذلك أدعى للكرامة وأبقى من أن يجعلني في وضع الموظف عند الألمان"، فهل يمكن اعتبار موقف عجاج خروجاً عن مبادئ الحزب، وهل كانت دوافعه للعمل مع الحكومة في الإذاعة ذات بعد وطني؟
تولي عجاج لمنصب مراقب القسم العربي في الإذاعة
عمل عجاج مديراً للقسم العربي في محطة الإذاعة منذ عام 1940 وحتّى عام 1944، وهو يروي في مذكراته قصة عمله هذه بطريقة توحي بأنّه دوافعه للعمل كانت وطنية صرفة، وأنّه عمل على خدمة القضايا العربية، دون أن يتورط بدعم الإنجليز خلال الحرب. على أنّ البحث الدقيق في المصادر التاريخية يبيِّن قصة مختلفة، ويبيّن أنّ نويهض خدم الدعاية البريطانية خلال الحرب بكل إخلاص.
يقول نويهض أن المنصب عرض عليه بعد نشوب الحرب العالمية الثانية بقليل، أي في أكتوبر 1939 تقريباً، ويدّعي أنّه تشاور مع عشرة من إخوانه الذين كانوا في القدس وعلى رأسهم أحمد حلمي باشا وعوني عبد الهادي(58)في تلك الفترة قبل أن يوافق على العمل ويضع شروطه لذلك.[59] وتتلخص هذه الشروط فيأن يكون للقسم إدارة حرّة مستقلة، وفي بناية مستقلة لوحده؛ أن يتمتع بحرية تامّة فيما يتعلق بالموظفين تعييناً وتبديلاً؛ أن يكون للقسم ميزانية سخيَّة؛ وأخيراً أن لا يكون أية رقابة على ما يذاع. ويقول أن الحكومة في البداية رفضت شروطه، ولكنها في النهاية رضخت وقبلت وعينته. وفي البداية كان نويهض مسئولاً عن البرامج الإخبارية والسياسية والفكرية، والشاعر إبراهيم طوقان مسئولاً عن البرامج الأدبية والفنيّة، ثمّ أصبح نويهض مسئولاً عن جميع القسم بعد استقالة إبراهيم.
تقدّم يوميات الفتياني ومصادر تاريخية أخرى رواية مختلفة عن رواية عجاج حول عمله في الإذاعة، فإلى جانب وجود تناقضات فيها، تروي هذه المصادر قصّة مختلفة حول خلافه مع إبراهيم طوقان، واضطرار الأخير للاستقالة، كما أنّها تبيِّن أنّه أدار الإذاعة والمطبوعات بما يخدم المصالح البريطانية خلال الحرب.
تناقضات رواية نويهض
من حيث التناقضات، وبالإضافة لما ذكر سابقاً عن تناقض رواية استشارة العشرة مع حقيقة غياب الاستقاليين عن البلاد، فإنّ نويهض يناقض الحقيقة حين يتحدث عن حرية تامّه له في العمل دون رقابة حكومية، فهو يؤكد أنّ الحكومة أولت اهتماماً كبيراً للإذاعة، وخصوصاً مع تقدّم هتلر في الحرب، مما دفعها لتغيير المدير البريطاني واستبداله بآخر، وهي أنشأت الإذاعة أصلاً خلال ثورة 1936 لتحقيق أهدافٍ سياسية(60)ثمّ أولتها عناية كبيرة خلال الحرب الثانية للرد على دعاية المحور القادمة لفلسطين من إذاعتي باري الإيطالية، وبرلين الألمانية. فلا يمكن والحالة هذه لها أن توافق نويهض على شرطه بعدم مراقبة ما يذاع. يضاف لهذا أن واحدةً من مهام نويهض نفسه كانت مراقبة الصحف العربية الصادرة في فلسطين، فهو اتخذ لقب "مراقب البرامج العربية والنشر"(61)، وهذا يعني أنّه كان مسئولاً عن منع نشر ما يضرّ مصالح الإنجليز. يؤكد هذا الأمر ما ذكره نويهض في معرض حديثه عن خلافه مع المسئول عن القسم الإنجليزي من الإذاعة، المستر مكنير، واجتماع السكرتير العام للمندوب السامي بهما لفضَّ الخلاف. ففي هذا الاجتماع ذكر عجاج للسكرتير أنه عربي يدعو للأمّة العربية، وينادي بحريتها، ويطالب باستقلالها، "وأنا أخدم في القسم العربي على هذا النحو مما يتساوق مع المصلحة البريطانية الحربية،"(62)ولهذا فهو يستغرب لماذا يضع مكنير العراقيل في طريقه. وقد خاطب السكرتير العام المستر مكنير مؤكداً على أهمية الإذاعة للحكومة البريطانية: "إنّ دار الإذاعة الفلسطينية تتعلق بها مصالح بريطانية من عسكرية وسياسية وغيرها، والإذاعة يجب أن تسير سيراً حسناً."(63)
قصة الخلاف بين نويهض وطوقان
فيما يتعلق باستقالة إبراهيم طوقان وعلاقة نويهض بها، فقد خصّص الأخير جانباً من ذكرياته عن العمل في الإذاعة لمسألة خلافه مع إبراهيم طوقان،(64)وروى أنّ الذي بادر بالعداء والمشاكسة هو إبراهيم، لأنّه "لم يرتح إلى مجيئي للإذاعة، وصار يعرب، رحمه الله، عن استيائه هذا بطرقٍ مختلفة." ويقول نويهض أن إبراهيم كان يسعى لدفعه للاستقالة من الإذاعة من خلال مضايقته. ولكن كان إبراهيم هو الذي قدّم استقالته في النهاية، وقد اختلفت وتضاربت الأقوال، على ما يقول نويهض، حول سببها.
تختلف رواية المصادر التاريخية عن رواية نويهض. فيروي طالب مشتاق في مذكراته (65)عن معرفته بحدوث خلاف بين عجّاج نويهض والشاعر إبراهيم طوقان، ويقول أنّ صديقه جلال زريق، وكان موظفاً في القسم العربي من السكرتيرية العامّة في حكومة فلسطين، راجعه يوماً وهو في القدس وأبلغه بأنّ إبراهيم فُصل من عمله في دار الإذاعة "لخلاف نشب بينه وبين عجاج نويهض، مدير القسم العربي بدار الإذاعة،" وطلب زريق من مشتاق تأمين عمل لإبراهيم في العراق، الأمر الذي لبّاه مشتاق، إذ عُيِّن إبراهيم أستاذاً للّغة العربية في إحدى المدارس الثانوية، ولم يمكث إبراهيم طويلاً في بغداد إذ مرض وعاد لنابلس ليموت وهو في ريعان الشباب.
مصدر آخر تناول الموضوع كان السيرة الذاتية لفدوى طوقان، شقيقة إبراهيم، فهي تتحدث عن خروج أخيها من عمله بالإذاعة، وكانت تعيش مع أسرته في القدس، فتقول أنّه حدث في أكتوبر 1940، وأنّه كان نتيجة لاحتجاجات اليهود ضده بعد أن اتهموه بترويج اللاساميّة من خلال أحاديثه الإذاعية، وتنقل ترجمةً لأقوالٍ نشرتها الصحف العبرية الصهيونية تحتج على ما أذاعه عن السموأل، الشاعر اليهودي الذي اختلف مؤرخو الأدب العربي حول وجوده أصلاً وحول علاقته المزعومة بامرئ القيس، ثمّ تقول بأن "الحكومة الإنكليزية ناقشته الحساب، فردّ عليها رداً علمياً ومنطقياً". أمّا تفاصيل السبب الذي أدّى لإقالة إبراهيم من العمل، فهي تذكر اشتداد الرقابة على الإذاعة خلال الحرب، حيث "قام بعض المشرفين عليها من منافسيه العرب بالتحريض عليه لدى السلطات البريطانية، وقام الدس، وكان دسّا ً لئيماً فاتهم بتسريب الدعاية في برامجه ضد الحلفاء. وأقيل من مصلحة الإذاعة الفلسطينية ليأخذ منافسه مكانه."(66)لا تذكر فدوى تفاصيل عن الدسّ ضدّ أخيها، ولا اسم الشخص العربي الذي اختلف أخوها معه، ولكن يمكن الاستنتاج أنها تتحدث عن عجّاج نفسه كونها تقول أنّه أخذ مكانه في العمل، وهو ما كان مع عجاج الذي تولّى مهام إبراهيم بعد إقالته.
تؤيد رواية أوردها اسحق درويش في مذكراته المخطوطة رواية فدوى طوقان، وتوضح طبيعة الدسّ الذي جرى ضد إبراهيم طوقان. يقول درويش في ملاحظة دونّها في بغداد بتاريخ 27 رمضان 1359 هــ، 29/10/1940 م:
في كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ قصة شخص وجد عقد لؤلؤ بينما كان يطوف في الكعبة، وأعاده لصاحبه، وكان بينهما علاقة ودية، ووفاءً بالعهد. اتخذ إبراهيم طوقان هذه القصة موضوعاً يلقيه على الأطفال، ودعى الشخص الذي أعاد عقد اللؤلؤ أميناً، وصاحب العقد الذي وفى لمن وجده وفاءً.. وقدَّمها ليلقيها...
مكر عجاج له بعض إلقائها، وأوهم السلطة أن المقصود من هذه القصة الاشادة بفضائل السيد محمد أمين الحسيني."
وقوف عجاج نويهض مع الإنجليز خلال الحرب العالمية الثانية
تدل الوثائق التاريخية دلالة قاطعة على أن نويهض أدار الإذاعة والمطبوعات بما يخدم المصالح البريطانية خلال الحرب(67)وفيما يلي بعض الدلائل:
حسب المحامي حنّا نقارة، كان عجاج نويهض وعباس العقاد يذيعون خلال الحرب خطابات لصالح بريطانيا، "مما أثار استهزاءنا بهذه الإذاعات الكاذبة. إذ كانت بريطانيا في نظرنا رأس الحية، ولا يهمنا من سيقضي على هذه الحيّة الرقطاء".(68)
شارك نويهض في الاجتماع الذي عقده المندوب السامي في دار الحكومة بالقدس لعدد من الوجهاء الفلسطينيين وقادة المجتمع(69)من أمثال رؤساء بلديات القدس وغزة ورام الله والناصرة والخليل والرملة ويافا وعكا، وحضره بالاضافة للمندوب السامي القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين، وقد بحث المسئولان البريطانيان فيه مع المشاركين في مشروع تطوع عرب فلسطين في الجيش البريطاني، ووسائل تشجيع العرب على التطوع في صفوف الجيش البريطاني.
كما استقدم نويهض الكاتبين والأديبين المصريين عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني من أجل إلقاء كلمات مؤيدة لبريطانيا ومناوئة لألمانيا وإيطاليا،(70)ونشر خطاباتهما في الكتاب الذي أعده هو بنفسه ونشره في القدس عن القسم العربي في دار الإذاعة الفلسطينية، أي على نفقة الحكومة البريطانية، تحت عنوان حديث الإذاعة.(71)وقد اعتبر عجاج في تقديمه للكتاب أن أحاديث الكتاب تمثل "حظاً طيباً من الانتاج الفكري لرهطٍ كريمٍ من علماء العرب وأدبائهم وأديباتهم، لا في فلسطين وحدها، بل في الأقطار العربية المجاورة من سوريا ومصر ولبنان."(72) فهو الذي استقدمهما وهو الذي اختار أحاديثها للكتاب وهو الذي امتدح هذه الأحاديث، فماذا قال العقاد والمازني؟
دارت الأفكار الأساسية التي تضمنتها أحاديث العقاد والمازني حول حتمية انتصار بريطانيا والحلفاء الذين يمثلون معسكر الخير، وحتمية هزيمة ألمانيا وإيطاليا اللتان تمثلان معسكر الشر، وأن هناك توافقاً ثقافياً ونفسياً بين العرب وبريطانيا. ويجدر الإشارة هنا إلى موضوعين أساسيين حول هذا الموقف. الأول أنّه يأتي مخالفاً لموقف زعامة الحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة بالحاج أمين ومعسكره، والذين شكلوا في بغداد حزباً سرياً مؤيداً للمحور، أطلقوا عليه "حزب الأمة العربية" وهدفه تحرير البلاد العربية من نير الاستعمار، والعمل على توحيدها فيما بعد (73) والثاني أنه أغفل موقف بريطانيا في صراع الفلسطينيين مع الحركة الصهيونية.
اعتبر العقاد في حديثه(74)المعنون ب"الحرب بعد اثني عشر شهراً وستة أسابيع"، والذي بثته الإذاعة بتاريخ 13 رمضان 1359 هـ، الموافق للرابع عشر من تشرين الأول 1940 ميلادية، أنّ التفكير العقلي، القائم على الحكم على الأشياء والحوادث بمقدار ما لها من النتائج والدّلالات، بعيداً عن الفرقعة والضجيج، يقود إلى أنّ انتصار بريطانيا حتمي لأنّها تمثل قيمة الحرية، والنصر هو "للحرية لا محالة"، وقال العقاد في حديثه أنَّ هزيمة ألمانيا أكيدة لأنها تمثل "القوة الغاشمة والسطوة البهيمية"، ووصف الإيطاليين والألمان بأنّهم "ثمانين مليوناً مطبوعين على التسليم للحكومات... مجردون للقتال."(75)وهوّن العقاد من الانتصارات الألمانية والإيطالية خلال السنة الأولى من الحرب، والتي أثارت حماسة في صفوف العرب المعادين لبريطانيا وسياستها في فلسطين، فاعتبر انتصارهم مرّة على عشرة ملايين، ومرة أخرى على ثلاثة ملايين، ومرة ثالثة أو رابعة أو خامسة على أربعين مليوناً غير مستعدين..."ليس بالأمر الرائع، وليس بالفتح الغريب."(76)وأجرى حساباً للخسائر والأرباح بيّن فيه أن ألمانيا أكثر خسارة من بريطانيا، ففي البحر مثلاً "خسر النازيون أكثر من نصف أسطولهم الحربي، فأصبحوا الآن في صف الدول الثالثة أو الرابعة في القوة البحرية... أمّا البريطانيين فربحوا خمسين مدمرة أمريكية، واشتروها بأجرة الجزائر التي كانت لهم في البحار الغربية، فكان ربحهم ربحين، لأنهم رفعوا عن كاهلهم أعباء الدفاع عن تلك الجزائر، وأضافوا إلى قوتهم في البحر تلك السفن، التي كانت مشغولة بالحراسة هناك." (77)أمّا في الفتوح الأرضية، "فالنازيون قد أصابوا منها الكثير، واستفادوا من خيراتها ما كانوا مفتقرين إليه. ولكنها فائدةٌ إلى حين.. ثم تواجههم المشكلات تلو المشكلات، من تلك الأمم الجائعة المسلوبة، فلا هم قادرون على إطعامها، ولا هم قادرون على قمعها وإرهابها، مع اليأس والجوع."(78) وتحدث العقاد عن صفات هتلر فوصفه بأنه رجل كاذب متبجح، وادعّى أنَّ كل مخلوق من الشعبالألماني هو "نيَّةُ حربٍ حيَّةٍ تمشي على قدمين."(79)
أخبار عجاج والإذاعة في يوميات الفتياني
ينسجم حديث الفتياني عن عجّاج نويهض مع الاستنتاجات التي أوردناها أعلاه، حيث نلمس في هذا الحديث موقفاً ناقداً للرجل، وتعبيراً واضحاً عن عدم الرضا عنه، ففي يومية الجمعة 8 كانون الثاني 1943 يكتب الفتياني: "صافحني عجاج نويهض بحرارة، وقال لي أنّه كان يريد ان يزورني منذ شهر في المشغل، وكنت أظن لحسن نيتي أنّه يريد أن يبحث معي في مسألة الكليشهات (80)ولكني مع الأسف شممت من كلامه أنه يريد تشغيلي في محطة الإذاعة." وفي يومية الاثنين 11 كانون الثاني من نفس العام كتب يقول: "زارني اسحق أفندي الشاكر الحسيني ومكث عندي أكثر من ساعة، وعلمت منه أن أبا سلمى (عبد الكريم الكرمي) سيترك العمل في محطة الإذاعة الفلسطينية ليشتغل محامياً في حيفا بالاشتراك مع أحد المحامين، وقد أصيب بالقريفة من كثرة ما رأى وتحمَّل من الأستاذ نويهض."
يتابع الفتياني أخبار الإذاعة وما يدور من أمور بشأن موظفيها العرب، فيكتب يوم السبت 24 نيسان 1943م(81)أنه تمّ اختيار "محمد أديب العامري مساعداً لمراقب البرامج العربية والنشر في محطة الإذاعة الفلسطينية (أي مساعداً لعجاج نويهض) وقد أثنت عليه جريدة الدفاع حين نشرها هذا الخبر، ثناءً عاطراً. كما عُيِّن أمين أبو الشعر مراقباً للنشر العربي في محطة الشرق الأدنى، وهو المنصب الذي كان عرض علي منذ بضعة أشهر ورفضته." وكتب الفتياني في يومية الجمعة 13 آب 1943 م (12 شعبان 1362 هـ) "وحدثني أمين يونس العجب العجاب عن أعمال عجاج نويهض وتصرفاته. وعجاج يتناول الآن اكثر من 120 جنيهاً مرتباً شهرياً. ولم يكتف بهذا المبلغ الباهظ بل طلب الزيادة. ولكن الحكومة وقفت له بالمرصاد ولوحت له بأنها تريد الاستغناء عنه. فاعتذر وتراجع ورضخ للأمر الواقع." كما كتب في يومية الأربعاء 29/12/1943 م (82)"علمت من السيد ياسين الخالدي أن الأستاذ عجاج نويهض مدير البرامج العربية في محطة الإذاعة قدم استقالته، أو بعبارة أصح أوعز له بأن يستقيل لأن الحكومة ضاقت به ذرعاً، وقد عين الأستاذ محمد أديب العامري خلفاً له. وتنفس الناس الصعداء لزوال الكابوس عنهم. وكان يتقاضى مرتباً يبلغ أحياناً إلى الثمانين جنيهاً." ويكتب في الخميس 3/2/1944 عن تعيين "عزمي النشاشيبي مدير المطبوعات في يافا وتل ابيب مراقباً للبرامج العربية في محطة الإذاعة الفلسطينية خلفاً لعجاج أفندي نويهض الذي أرغم على الاستقالة." ثمّ يؤكد الفتياني في يومية السبت 19/2/1944 م أن عزمي النشاشيبي "قبل مؤخراً أن تسند إليه وظيفة مراقب البرامج العربية في محطة الإذاعة الفلسطينية براتب 800 جنيه في العام على أن تعد له الإذاعة بيتاً وسيارة تاكسي." ويكتب في يومية الثلاثاء 11 نيسان 1944 أنّ جريدة الدفاع ذكرت أن عزمي النشاشيبي مراقب المطبوعات في يافا وتل ابيب قد عين مديراً للبرامج العربية في محطة الإذاعة الفلسطينية خلفاً للأستاذ المأسوف على وطنيته عجاج نويهض.
خلاصة
أضاءت هذه المقالة جوانب مهمة من العلاقات التي سادت بين أعضاء النخبة الفلسطينية في مدينة القدس، وعرضت التغير في مواقف الاستقلاليين عوني عبد الهادي ورشيد الحاج إبراهيم وعجّاج نويهض من بريطانيا، وقبولهم بدعمها خلال الحرب ضد دولتي المحور، ألمانيا وإيطاليا. كما عرضت لجهود أحمد حلمي باشا ورشيد الحاج إبراهيم لتشكيل قيادة محلية، بدل القيادة المنفية خارج البلاد، ولكن الحسينيين أفشلوا هذه المساعي. ودرست المقالة مواقف عجّاج نويهض خلال عمله بالإذاعة، ودعمه للدعاية البريطانية خلال الحرب.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية وحوليات القدس.اضغط/ي هنا للحلقة الأولى]