حققت جماعة "الإخوان المسلمون" فوزاً كبيراً في الانتخابات التشريعية المصرية الأخيرة، والتى تعد بحق أول انتخابات نزيهة تجري في مصر منذ ثورة يوليو ١٩٥٢. لم تكن النتائج مفاجئة بنظر الكثيرين، فتاريخ الإخوان النضالي وتنظيمهم وقاعدتهم الشعبية كانت عوامل واضحة ومؤشرة إلى فوزهم المحتمل.
بدا المشهد يوم الثالث والعشرين من يناير٢٠١٢ وكأن ثورة يناير ٢٠١٢ أفرزت بعد عام أول ثمارها. ورغم تخوفات البعض من سيطرة التيار الإسلامي فقد اعتقد الكثيرون أن كوادر الإخوان مؤهلة بالفعل لتولى دفة الثورة. وسادت اعتقادات أخرى أكثر ثقة وتفاؤلاً بأن المجلس الوليد صاحب الشرعية قادر على إدارة التغيير والتصدي لسياسات المجلس العسكري بل واقترح البعض أن يتسلم البرلمان سلطات المجلس العسكري.
أسابيع قليلة مرت على هذه الجلسة كان بمقدورها أن تحول تخوفات البعض إلى اعتراض واضح وصريح وأن تتسبب في إرباك بعض المؤيدين رغم أن عمر المجلس الوليد لم يبلغ شهره الأول بعد. ما الذي حدث؟
يبدو أن الأزمة الأساسية تكمن في حجم الهوة بين ما كان مأمولاً وبين ما تحقق. فالموضوعات التي ناقشها البرلمان حتى الآن هي كالآتي:
حقوق شهداء الثورة
وهو موضوع واسع لايزال قيد المناقشة، وتعمل عليه لجنتان: الأولى لجمع المعلومات الجنائية أو ما يعرف بتقصي الحقائق، والثانية لبحث إمكانية تفعيل تشريعات لمحاسبة الوزراء أقرت في خمسينيات القرن الماضي ولم تطبق إلى الآن.
شهداء إستاد بورسعيد
وهى الجريمة التي راح ضحيتها أكثر من سبعين مصري (هناك تقديرات بأن العدد يفوق ذلك بكثير) ويسود اعتقاد واسع بأنها مدبرة من قبل أعوان النظام السابق وأركانه المحبوسين حالياً، وانتهت إلى مطالبات لا ترقى إلى توصية رسمية ملزمه تطالب بتطهير وزارة الداخلية وعدم استخدام العنف تجاه المتظاهرين مع التوجيه بإعداد قانون ينظم التظاهر.
أزمة نقص اسطوانات الغاز
وهو موضوع لايزال قيد المناقشة.
ثمة فارق كبير بين الثورة والدولة، فالأولى حالة جامحة متمردة قانونها التغيير والتمرد وغايتها تحقيق مثل نبيلة وقيم إنسانية رفيعة، بينما الثانية روتينية بحتة تلتزم بالقواعد واللوائح ولا تتحرك إلا في ضوئها وغايتها أن تسود اللائحة ويطبق القانون.
وهنا تحديداً تكمن الأزمة، المتصاعدة على ما يبدو، فالثورة التي لم تنته لازالت جامحة متمردة تؤججها المكائد والمؤامرات وترفع من وتيرتها إشارات سلبية عديدة صادرة عن الموالين للنظام السابق، والمطلوب هو استكمال أهدافها فوراً وبقوة الشرعية، شرعية البرلمان.
وسلطات البرلمان كبيرة بالفعل ولا شك أنها تمكنه من تحقيق العديد من هذه الأهداف. كما أن نقاشات النواب قوية ومبشرة، فبعضهم يطالب بإقالة النائب العام الذي يرون أنه تستر على العديد من التحقيقات ولم يؤد واجبه على النحو المطلوب، وآخرون يتحدثون عن اتهام وزير الداخلية بالتقصير–وهو أحد توصيات لجنة تقصى حقائق بورسعيد- وبعضهم يشير إلى سحب الثقة من الحكومة وتشكيل حكومة جديدة يتوافق عليها أعضاء البرلمان.
لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق. بل على العكس من ذلك أزعم أن البرلمان بأغلبيته الإخوانية تعمد خلال الجلسات القليلة الماضية عرقلة الجهود الرامية إلى إصدار قرارات أو توصيات ملزمة، فلا اتهام صريح وجه لوزير الداخلية الذي أثبتت الصور بل ونقاشات النواب أن جنوده استخدموا الطلقات الحية " الخرطوش" رغم إنكاره ذلك، ووصل الأمر إلى أن النواب ذكروا صراحة أن السيد الوزير لا يدرى ما يحدث على أرض الواقع، لكن ذلك لم يكن كافياً لتوجيه الاتهام الذي أوصت به اللجنة التي شكلها المجلس.
وكان من المدهش كذلك أن يناقش البرلمان أزمة نقص الغاز في نفس اللحظة التي تدور فيها اشتباكات قاسية أمام وزارة الداخلية المصرية بين المتظاهرين الغاضبين وجنود الداخلية وقد سقط فيها قتلى ومصابين.
وكان الأكثر إدهاشاً أن يطلب رئيس المجلس من اللجان المعنية الانتهاء من قانون تنظيم التظاهر والاحتجاج رغم أن الثورة التي جاءت عبر التظاهر تطالب بقوانين أخرى ترى أنها أكثر أولوية.
كيف يتحرك الإخوان؟
إن المتابع للجلسات القليلة الماضية وكيفية تعامل الأغلبية الإخوانية معها يمكنه تكوين قناعة بأنهم قرروا على الأقل في المرحلة الحالية الاكتفاء بدور المراقب وهو بطبيعة الحال أحد المهام المنوطة بالمجلس لكنها ليست كلها ولا أهمها.
يكتفي الإخوان بالمناقشة الحرة وبشرح وجهة نظرهم في الكيفية التي يجب أن يكون عليها الأمر موضوع المناقشة وتوضيح جوانب الخطأ دون أدنى محاولة للتصويب. فعلى سبيل المثال، تم توضيح جوانب القصور في حادثة بورسعيد للسيد وزير الداخلية وتم شرح أهمية تطهير الوزارة من القيادات التابعة للنظام السابق لكن شيئاً ملزماً للوزير أو مهلة محددة للتنفيذ لم يصدر عنهم. حادثة أخرى تتمثل في إلغاء قانون الطوارئ فمع تصاعد المطالبات للمجلس بإصدار قرار في الشأن، فضل المجلس عدم التطرق للأمر إلى قام المشير بالإعلان عن إلغائه -إلا في جرائم البلطجة- مستبقاً جلسة المجلس، وهو ما يبدو أنه تم عبر تنسيق مسبق بين الإخوان والمجلس العسكري. كما أعلنوا أيضاً أنهم لا يريدون تشكيل حكومة وأنهم لا يرغبون في استلام السلطة من العسكري.
هذه الصورة الوديعة تبدو مربكة حين ننظر لصور أخرى خلفها قاسى فيها الإخوان صنوف العذاب بدء من اغتيال حسن البنا وانتهاء باعتقال ومصادرة أملاك خيرت الشاطر وحسن مالك.
محاولة للفهم:
يبدو الأمر مستعصياً على الفهم. فما الذي يدفع الإخوان بتاريخهم إلى عدم التصدي لعملية التغيير وقيادة مطالب الثورة وتحقيقها. أليست الفرصة سانحة؟!
لكن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب أولاً فهم الخلفيات التي قد تكون دفعت الإخوان لهذا الموقف، وبطبيعة الحال فإن تنظيمهم الذي عمل في السر لسنوات طويلة لا يمكن بسهولة فهم الكيفية التي يفكر بها ولا حجم المشاورات الداخلية أو الخارجية التي يجريها، لكن ذلك لا يمنع من المحاولة على أي حال. يبدو واضحاً سعي الإخوان لعدم التصادم مع المجلس العسكري. بل على العكس، فهم يسعون لكسب ثقته ووده والتعبير عن انهم لا يرغبون في الانقلاب عليه بل يرغبون في التعاون معه. كما أن هذا الموقف يمنحهم ثقة على الصعيد الدولي بأنهم ليسوا "حماس"ً أخرى وأنهم لا يريدون الإضرار بمصالح الغرب نظراً لخلفيتهم الإسلامية. أضف إلى ذلك أن حجم الفساد والأخطاء المتراكمة أكبر بكثير من الإخوان، ومن ثم فليس من الحكمة أن يتورطوا في مستنقع ربما لا يستطيعون الخروج منه، ولا أن يرثوا مشكلات يبدو بعضها بلا حلول.
فضلاً عن أن التصدي بقوة وعنف كفيل بإثارة أعوان النظام السابق ممن سيشعرون بالخطر، وهؤلاء موجودون على رأس السلطة التنفيذية ويمثلون قيادات الوزارات والهيئات والمصالح ويملكون شبكة من العلاقات تتخطى فى بعض الأحيان حدود الدولة، وهو ما يعنى أن السلطة فعلياً لم تسلم بعد فبوسع البرلمان أن يصدر مئة قرار وبوسع أعوان النظام السابق عرقلة كل قرار بمئة مشكلة تدفع الشارع للتصادم مع البرلمان العاجز، وحوداث الإنفلات الأمني المنضبطة خير مثال على ذلك فهي لا تحدث إلا بالتزامن مع أحداث سياسية ذات مغزى.
كذلك فإن غموضاً لايزال يحيط بمسألة انتخابات الرئاسة ودور المؤسسة العسكرية، صحيح أن المجلس أعلن عن نيته تسليم السلطة لرئيس منتخب بنهاية يونيو القادم، لكنه حين أعلن الجدول الزمني للتنفيذ اكتفى بالإعلان عن موعد فتح باب الترشيح وهو ١٠ مارس القادم وهذا هو الموعد الوحيد المحدد حتى أن موعد إغلاق الباب غير معروف فهو سيستمر مفتوحاً لثلاثة أسابيع على الأقل حسب التصريح الغريب المنسوب لرئيس اللجنة.
وزيادة في الغموض فإن إشارات مبهمة تصدر عن المجلس العسكري وتبقى بلا تفسير، منها إقالة أحد أعضائه لبلوغ السن القانونية ليعلن عقب ذلك بساعات قليلة أنه تم تعينيه مساعداً لرئيس الأركان، وهو أمر مثير بلاشك فمن الصعب أن يقتنع مصري بمسألة الإحالة لسن التقاعد نظراً لأن رئيس المجلس نفسه قد تخطى الثمانين، فضلاً عنه تعينه في منصب آخر مهم على علاقة بمهام المجلس العسكري لدرجة سمحت له أن يدلى بتصريحات لوسائل الإعلام عن أحداث بورسعيد، والسؤال هل كان ثمة توجهين داخل المجلس وكان ما حدث حلا توافقياً؟
ومن بين هذه الإشارات أيضاً ما أذاعه السيد رئيس الأركان في معرض نفيه شائعة وفاته من أن هناك أخبار سارة ستسعد الشعب المصري كله قريباً، ورغم أن أحداً لا يعرف حتى الآن ما هي تلك الأخبار إلا أنه فات السيد رئيس الأركان أنه استخدم نفس الجملة التي استخدمها ضباط الجيش في ميدان التحرير قبل إعلان مبارك تنحيه عن السلطة!
ما سبق لا يشكل سوى رصداً لبعض الخلفيات التي قد يكون الإخوان استندوا إليها في بناء موقفهم، وهى إن صحت فإنها في الغالب تشير إلى أن تقدير الإخوان للموقف ينبنى على أننا إزاء لحظة هلامية بلا ثوابت تقريباً وأن صراعاً على السلطة أو القوة لم يحسم بعد وأن تدخلهم الآن قد يفسر بانحيازهم لطرف ضد طرف، بينما يشكل هذا الأداء تدخلاً سلبياً قد يستفيد منه طرف دون أن يتمكن الطرف الثاني من إثبات تورطهم، وعند حسم هذا الصراع يظهر الإخوان بمشروعهم الحقيقي للدولة المصرية.
الديمقراطية وحدها لا تكفى
هل يمكن أن نفهم مما سبق أن الديمقراطية وحدها لا تكفى؟ يبدو ذلك صحيحاً نوعاً ما، فلبنان والعراق والكويت دول تمارس الديمقراطية لكنها لا تعد نماذج مبشرة. وهى تمارس الديموقراطية لكنها لم تنفذ أبداً إلى أهدافها. فهي محدودة في الكويت وطائفية في العراق وتوافقية في لبنان، ويبدو أن الوضع المصري الحالي أكثر قرباً للنماذج السابقة فممارسة الديمقراطية موجودة وملموسة ولا يمكن إنكارها، لكنها مقيدة بتوازنات للقوى لا أحد يعرف حجمها الحقيقي، وتبدو أصعب اللحظات هنا هي لحظة الصدام التي يستحيل على المرء التنبؤ بنتيجتها وإن كان بوسعه الاستماع لوقع خطواتها القادمة إليه.