سعود عمر، هو عضوٌ في نقابة عمال قناة السويس، ترشح للانتخابات البرلمانية كمستقل عن دائرة مدينة السويس الساحلية. لكن قبل أن يتوجه الناخبون إلى صناديق الإقتراع في الدورة الثانية يومي 14 و15ديسمبر(كانون الأول)، تم استبدال الأرقام المخصصة للمرشحين بشكل مفاجئ، رغم أن العديد من الناخبين يعتمدون على هذه الأرقام للتصويت لمرشحهم المفضل، نظراً لطول وتعقيد لوائح الإقتراع. وفي حين أن ملصقات عمر في بعض أنحاء المدينة، تشير الى أن رقمه 62، فإن الرقم الذي ظهر بجانب أسمه على لائحة الإقتراع هو 59. وكان ذلك بسبب أن عدداً من المرشحين قد انسحبوا من المنافسة متأخرين، مما أدى إلى تغيير الأرقام.
هذه الحادثة والكثير من مثيلاتها، أظهرت أنه في الوقت الذي سارع فيه العالم إلى الإحتفاء بـ (الانتخابات التاريخية) في مصر، والخطوة الجبارة نحو (الديموقراطية)، تخبط المصريون وحدهم، وتُركوا ليدلوا بأصواتهم في انتخابات أجريت بشكل متسرع، وفوضوي كما إنها مشوبة بالمخالفات أيضاً. والمفارقات لا تنتهي هنا. فمن أوكلت إليه مهمة مراقبة الإنتخابات، هو جهاز عسكري قام قبل أيام من فتح صناديق الإقتراع، بضرب وقتل متظاهرين غير مسلحين. وكما يقول الرواة: الجيش يقمع حرية التعبير تارةً، وتارةً يحمي حق الشعب الديموقراطي في الانتخاب.
في 28 نوفمبر(تشرين الثاني)، وهو اليوم الأول من الإنتخابات، توجه العديد من سكان القاهرة إلى صناديق الاقتراع، ليجدوا إن عليهم الاختيار من بين مايزيد عن مئتي مرشح، دون أية إشارة للحزب الذي ينتمون إليه، هذا إن كانوا ينتمون إلى حزب. وفي حال لم يقم الناخب ببحث مسبق عن الانتماءات الحزبية لجميع المرشحين، فإن اختياره سيكون إما عشوائياً، أو بناءً على نصيحةِ أحد المندوبين المتواجدين بشكلٍ غير قانوني في مركز الاقتراع. أما في مناطق أخرى من العاصمة، فقد تم العثور على الآلاف من بطاقات الاقتراع، مختومة ومرمية في سلة المهملات.
هذه الحوادث لم تكن مفاجئة، نظراً للتاريخ الأسود والطويل في سوء إدارة الإنتخابات، وتزوير النتائج في مصر. لكن هنالك مخاطر أكبر بكثير من مجرد خروقات انتخابية، أو تزوير. إن إشاعة الحديث عن انتخابات (2011- 2012)، والخطاب المتعلق بالديموقراطية التي اثارته، يتم إستخدامهما لتقويض النضال من أجل التغيير الثوري.
*****
إنتقلتُ إلى مدينة غزة، قبل شهور من الانتخابات النيابية التي أجريت (يا للصدفة) في 25 يناير(كانون الاول) 2006. الوضع كان يختلف تماماً عمّا تعيشه مصر اليوم، لكن هناك بعض أوجه الشبه. حركة فتح، وهي منظمة سياسية كان يترأسها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وصلت إلى السلطة منذ تأسيس البنية (شبه الحكومية) للسلطة الفلسطينية، التي ولدت عام 1994، بعد المفاوضات السرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو. الإتفاق الذي صاغه الطرفان، أعطى الفلسطينيين حكومة لا تملك سيادتها. وبناءً على ذلك، فإن السلطة الفلسطينية باتت تشبه جمعية خيرية، تمولها الحكومات الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية. في المقابل، إستغلت الحكومة الأسرائيلية هذا الإتفاق، كرخصة دولية لترفع عن عاتقها، مسؤوليتها تجاه الفلسطينيين المقيمين على الأراضي التي تحتلها.
من خلال هذه العملية، حصلت فتح على (شرعية) المجتمع الدولي و(إسم) الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني. ومقابل طاعتها في العمل من خلال المؤسسات التي وفرها لها إعلان المبادىء (المعروف بإسم إتفاق أوسلو)، حصلت فتح على المساعدات الدولية والدعم المالي بصفتها حامية صناديق (السلطة). وخلال فترة حكمها بين عامي (1994 و2006)، أعطى هذا الترتيب زعماء الحركة وحلفاءهم فرصاً تجاريةً مغرية، دون ذكر المغانم التي حصل عليه مؤيدو فتح من خلال التوظيفات في الحكومة وخدمات أخرى. هذه المنظومة المؤسساتية التي تبنتها حركة فتح، أبقت على الإحتلال الإسرائيلي لمدة غير محدودة وأعطت شرعية لما هوـ في أحسن الأحوال ـ سيادة منتقصة. كانت الإنتهازية القصيرة المدى، وعلى وجه التحديد مغريات السلطة السياسية والمكاسب المالية، كافية لتحويل فتح من حركة تقاوم الاحتلال، إلى واحدة تتعاون معه وتعطيه شرعية.
وبحلول عام 2006، ورغم مواصلتها التغني بمنجزاتها الثورية، فإن تواطؤ فتح مع الواقع القمعي الذي يعيش في ظله الفلسطينيون، ساهم بشكلٍ كبير في خسارتها السلطة. فعلى سبيل المثال، صوّت عددٌ كبيرٌ من عناصر المنظمات الأمنية المختلفة للسلطة الفلسطينية، لصالح لائحة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس، التي تتفرع من حركة الأخوان المسلمين. تفاجأ البعض بفوز حركة حماس في الانتخابات البرلمانية، ومن ضمنهم قياديي فتح، الذين وجدوا صعوبةً في تقبل هزيمتهم. غير أنهم أعطوا فرصة التملص من النتيجة من قبل (طرف ثالث)، والذي كان قد مهد قبل سنين، لوصول فتح إلى السلطة. وبعد إشادة المجتمع الدولي ـ بقيادة جورج بوش ـ بالنموذج الديموقراطي الفلسطيني، فإنه تجاهل نتائج الانتخابات، وسعى لتقويض القادة المنتخبين من خلال فرض عقوبات وتقديم الدعم لمنافسيهم من حركة فتح. كما أقدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، على تدريب وتمويل قوى داخل الأجهزة الأمنية في فتح، بغية الإنقلاب على حماس. لكن بعد أن نجحت حركة حماس في إحباط هذه المحاولات، فرّ قياديو فتح من قطاع غزة، تاركين السلطة هناك لحماس.
رداً على ذلك، عيّن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حكومة مقرها الضفة الغربية برئاسة سلام فياض: الاقتصادي السابق في البنك الدولي. حزب فياض كان قد ترشح في انتخابات 2006، وفاز بمقعدين نيابيين من أصل 132. هذه السلسلة من الأحداث، أدت إلى تقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مقاطعتين، وكل ذلك من أجل (الديمقراطية)، التي كان من المفترض أن تأتي بها الانتخابات الفلسطينية.
إن المفاوضات السرية إذاً، قبل توقيع إتفاقية أوسلو لتشكيل سلطة فلسطينية، شكلت في جوانب شتى منها، القشة التي قصمت ظهر الإنتفاضة الأولى. إطار أوسلو وما تبعه وضع الفلسطينيين في درب فرض عليهم التصرف كدولة تحترم الاتفاقيات الدولية، وتبني مؤسسات لم يستفد منها سوى حفنةٌ من القيادات الفلسطينية. في حين جعل النضال من أجل الحقوق ومقاومة العنف والممارسات القمعية، غير مشروع. بتعبير آخر، أصبح القادة الفلسطينيون في موقع يمنعهم من مهاجمة قوات الاحتلال سواء في السياسية أو على الأرض، وبالنسبة لبعض الإنتهازيين منهم أمر غير مرغوب فيه. وبذلك لم يقوض هذا الخطاب حول إنشاء الدولة - ووعود الديمقراطية والحرية التي تأتي معها - حركة فتح وحسب إنما أيضاً أضعفت المقاومة الفلسطينية.
***
في ليلة 19 نوفمبر(تشرين الثاني)2011، تدفق مئات الآلاف من المصريين مجدداً إلى الساحات العامة ، احتجاجاً على مهاجمة قوات الأمن لمجموعة صغيرة من المتظاهرين نظموا اعتصاماً في ميدان التحرير في اليوم السابق. التظاهرة ضمّت أفراداً أصيبوا بجروح نتيجة عنف الشرطة خلال الإنتفاضة التي استمرت ثمانية عشر يوماً، وأطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك. المحتجون اشتكوا من أن الحكومة لم تفِ بعهدها بدفع تعويضات لهم عن إصاباتهم.
ومجدداً نزل المصريون إلى الشوارع بأعداد كبيرة للمطالبة بوضع حدٍ للحكم العسكري ، وإنهالت قوات الأمن ـ تحت إشراف قادة المجلس العسكري كما ورد ـ بالضرب على المتظاهرين، وبإطلاق الغاز المسيل للدموع. وعلى مدار الأيام الخمسة التالية ، استخدمت قوات الأمن المركزي ـ فرقة مكافحة الشغب ـ الرصاص الحي ضد المتظاهرين في القاهرة والإسكندرية، مما أسفر عن مقتل العشرات وإصابة ما يقارب الأربعة آلاف شخص.
الزخم الذي خلفه الغضب العارم إزاء هذا القمع، أفضى إلى أحداث 28 يناير(كانون الاول)، عندما تدفق مئات الآلاف من المصريين العُزّل إلى الشوارع، واخترقوا الخطوط الأمامية للشرطة، وسيطروا على الساحات العامة الرئيسية. لكن هذه اللحظة الثورية أصابها الركود في منتصف فبراير(شباط)، عندما تنحى الرئيس السابق مبارك، وتسلّم مجموعة من الجنرالات زمام السلطة، واعدين الشعب المصري ب(الديموقراطية) والتغيير. وبعد عشرة أشهر فقد المتظاهرون ثقتهم بهؤلاء القادة الذين نصبوا أنفسهم على رأس الدولة، كما تظهره الأعداد التي خرجت الى الشوارع يوم 19 نوفمبر(تشرين الثاني) للمطالبة بإنهاء الحكم العسكري .
ومثلما حصل في منتصف فبراير(شباط)، عاد الركود ليحل بين المتظاهرين بنهاية شهر نوفمبر(تشرين الثاني) - بعد أشهر من المطالبة بتغيير النظام - أو إنهاء حكم العسكر. وبعد إطلاق الآلاف من قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين في الساعات الاولى من صباح 24 نوفمبر(تشرين الثاني)، أخيرا توقفت قوات الأمن عن اطلاق النار. وأكد المسؤولون إن الإنتخابات ستجري في موعدها، رغم التظاهرات في ميدان التحرير والوضع المتوتر سياسياً، الذي أفضى إليه عنف السلطة برعاية المجلس العسكري. طالب المجلس كمال الجنزوري، الذي شغل منصب رئيس الوزراء في عهد مبارك بين عامي 1996 و 1999، تشكيل حكومة انتقالية جديدة. وبعد ساعات فُتحت أبواب مراكز الإقتراع في تسع محافظات مصرية من أصل 26، وعادت وعود الديموقراطية والتغيير لتنتشر من جديد على الصفحات الاولى للجرائد ومحطات التلفاز الخاضعة للرقابة.
لقد نجح جنرالات الجيش في تقويض هذه الاحتجاجات. وبدأ الصمت يخيم على ميدان التحرير صباح يوم 28 نوفمبر(تشرين الثاني)، واصطف سكان القاهرة أمام مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، في إنتخابات لم تسهم في دعم الدعوات الشعبية للتغيير الثوري.
نتائج الإنتخابات جاءت مشابهة لنتائج الإنتخابات الفلسطينية قبل خمسة أعوام، وظهر الإسلاميون كبديل شعبي للمؤسسة السياسية المترهلة، وتصدّر لائحة الفائزين حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الأخوان المسلمين، تلاه حزب النور السلفي، وضمِن الطرفان قرابة الثلثين من مقاعد المرحلة الأولى من الإنتخابات. وفي يوم 6 ديسمبر(كانون الاول)، أعلن مختار الملا، عضو المجلس العسكري، أن البرلمان لن يكون الجهة الوحيدة التي ستحدد أعضاء الجمعية التأسيسية، والتي ستناط إليها مهمة صياغة مسودة دستورجديد للبلاد. وجاءت ذريعة (الخوف من الإسلاميين) مجدداً- والتي يتبناها العديد في واشنطن - لتقيّد صلاحيات البرلمان الجديد. ورفضت جماعة الاخوان المسلمين هذه التصريحات، في حين تراجع مسؤولون آخرون عنها في المجلس العسكري. فيما اعلن ممدوح شاهين، وهو عضوٌ آخر في المجلس، أن البرلمان الجديد لن يكون مسؤولاً عن تشكيل الحكومة المقبلة.
في فلسطين، كانت الوعود الواهية بإقامة دولة، السبب في تقويض الإنتفاضة التي إنطلقت في 7 ديسمبر(كانون الاول) 1987. أما في مصر، فقد كان طيف الديموقراطية الدافع وراء إذعان المصريين مجدداً لحكم العسكر. هذا ولم يبصر النور أياً من هذين الوعدين.
***
ممالاشك فيه، ان الإنتفاضة الشعبية المصرية التي اندلعت شرارتها يوم 25 يناير(كانون الثاني)2011، تشهد اليوم مخاضاً عسيراً، مع مواصلة المجلس استخدامه الانتخابات (الديموقراطية)، كمحاولة يائسة لتقويض النضال الشعبي من أجل التغيير وإستنزاف شرعيته (وهي استراتيجية مصيرها الفشل). الحكم العسكري في مصر فعل كل ما بوسعه بعد بدء عملية التصويت، وبمساعدة حلفائه المحليين والدوليين، للإستمرار بقمع مطلب الشعب بالتغيير ، مستخدماً تارةً العنف وتارةً خطاب بناء الدولة، وذلك من خلال الانتخابات والديموقراطية. إلا أنه لم ينجح. طوال فترة الانتخابات البرلمانية التي جرت على مراحل متعددة، فأضرب العمال المصريون في جميع أنحاء البلاد عن العمل، وانضمت أصواتهم إلى جوقة الأصوات الرافضة للوعود الفارغة التي أطلقتها وتطلقها الطغمة العسكرية في مصر.
في الأول من شهر ديسمبر(كانون الاول)، منع خمسة موظفين في إدارة الجمارك في ميناء الأدبية بالسويس، دخول شحنة قنابل غاز تحمل 7 طن من الغاز المسيل للدموع إلى البلاد، شحنة مصدرها الشركة الأمريكية (Combined Systems). وهذا العمل الشجاع يسلط الضوء على زاوية من مجمل النضال الشعبي الذي تشهده مصر اليوم. طوال السنة الماضية، تعالت أصوات نشاز منددة بالاحتجاجات التي جرت في شوارع مصر. في المقابل عبّر المتظاهرون عن غضبهم إزاء عدد من القضايا كقمع الشرطة لهم، وغلاء أسعار المواد الغذائية والفساد والديكتاتورية واستغلال العمال وتغييب القضاء. واذا نظرنا الى ما هو أبعد من المشهد الانتخابي، والمنافسة بين الأحزاب السياسية الإنتهازية، يتراءى لنا بوضوح واقع آخر، وهو أن الثورة ليست تحدياً لحكم استبدادي وحسب، بل أيضاً للبنية الأساسية للدولة كما نعرفها. خيار موظفي الجمارك بمقاومة (أو على الأقل المحاولة) الشركاء الدوليين لحكام مصر العسكريين، يضع هجوم قوات الأمن على المتظاهرين في إطاره الدولي.
هذا الحادث الفريد، يثير تساؤلات مهمة: ما هي الشركات التي تزود جنرالات مصر بالسلاح؟ مع علمها الكامل بأنها ستستخدم ضد الشعب المصري. وما هو الدور الذي تؤديه الحكومات في دعم وتوجيه شركات خاصة منخرطة في هذه التجارة غير المشروعة؟ وماذا يخبرنا (هذا الحادث) عن تغني هذه الحكومات المتواصل بفضائل النموذج الغربي للديمقراطية؟ إذ هي تساعد في تصدير أدوات القمع للبلدان، وفي نفس الوقت تعظها باحترام (الحريات) وإجراء (الانتخابات)! إن هذه الأبعاد العالمية للصراع، تكشف أنه ليس مجرد تحد محلي ضد بنية الحكم في مصر، بل أيضاً مواجهة دولية ضد دولة تعيش في أزمة.
***
المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية لطختها مجدداً أعمال العنف ضد المعارضة السلمية. ففي الساعات الأولى من صباح يوم 16 ديسمبر(كانون الاول)، وبعد الإنتهاء من الجولة الأولى من التصويت في المرحلة الثانية، بدأ فرز الأصوات وإعلان النتائج الأولية في وسائل الإعلام المحلية والدولية، إختطف عناصر من الجيش متظاهراً كان يشارك في إعتصام (إحتلال الحكومة). وتعرض للضرب والتعذيب من قبل أفراد الأمن داخل مبنى البرلمان، حيث كان من المقرر أن يجتمع ممثلو الشعب المنتخبين. بتعبير آخر، قدمت الانتخابات للجنرالات عنواناً يمكن من خلاله تحويل الإنتباه بعيداً عن محاولاتهم لسحق الاحتجاجات. كما أعطتهم الفرصة للمضي قدماً في التسويق لروايتهم بأن التغيير الحقيقي والإستقرار يأتيان عبر صناديق الإقتراع ، وليس من خلال التظاهر والاعتصام اللتان تقوضان السلم الأهلي والحقوق الديمقراطية للشعب.
المتظاهرون ردوا برشق الحجارة على قوات الأمن المركزي. عناصر الجيش بادلوهم بالمثل من مبنى مجلس الوزراء المكون من تسعة طوابق. استمر التراشق عدة أيام دون إنقطاع. فيما كان الجيش يطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، بين الحين والاخر. وكسابقاتها من المواجهات إمتلأت المستشفيات بالجرحى، فالهجوم الذي شنته قوات الأمن ضد المتظاهرين العزل في شارع قصر العيني وميدان التحرير، أسفر عن مقتل 16 شخصاً على الأقل وإصابة نحو ألف آخرين.
الإعتصام أمام مقر مجلس الوزراء، كان قد بدأ بعد أن وافق المجلس العسكري في اواخر نوفمبر(تشرين الثاني)، تحت ضغط من المتظاهرين في ميدان التحرير، على استقالة حكومة عصام شرف، وعيّن اخرى برئاسة كمال الجنزوري، الذي كان قد شغل هذا المنصب خلال حكم مبارك. وقبل إنطلاق شرارة أعمال العنف في 16 ديسمبر(كانون الاول)، وعد رئيس الوزراء السابق في بيان أذاعه التلفزيون، بعدم إستخدام الغاز المسيل للدموع أو العنف ضد المتظاهرين. وفي وقت إستمر الإعتصام خارج مكتب رئيس الوزراء، بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن الصعوبات التي تواجه الحكومة الجديدة في إيجاد مقر بديل للإجتماع. وعندما بدأت قوات الأمن بمهاجمة المتظاهرين في ذات اليوم. ظهر رئيس الوزراء الجديدـ القديم على التلفزيون الرسمي ليقول: إن السلطة لن تواجه المظاهرات السلمية، بأي شكل من أشكال العنف.
واستُكملت عملية الانتخابات كما هو مخطط لها، على الرغم من أن المؤسسة العسكرية التي تشرف عليها، تستخدم العنف ضد الأشخاص الذين تعهدت بصون حقوقهم. أثناء الاشتباكات وبعدها. أقدم القادة العسكريون على إغلاق المنطقة المحيطة بالبرلمان، مما خلق منطقة عسكرية تضم مقر الحكومة، ومعزولة عن الشعب المصري. وفي أثناء كل هذا، تواصل الإقتراع وفرز الأصوات.
لقد أثبت عام 2011 في مصر، أنه عام لا مثيل له، لما شهده من إحتجاجات ثورية. ومن المغري أن نعول على العملية الإنتخابية والمؤسسات التي سوف تنتجها من أجل تجسيد هذا التغيير الثوري. لكن هذا الإعتقاد هو أكبر تهديد للثورة المصرية. حيث تهدف هذه (الديموقراطية) الفارغة والمحدودة التي يسعى إليها المجلس العسكري وحلفاؤه إلى تقويض الحركة الإحتجاجية في مصر، التي أثبتت قدرتها على تسجيل نجاحات كبيرة في طريقها لتحقيق المطالب التي دفعت الملايين من المصريين الى التظاهر يوم 25 يناير(كانون الثاني) : الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. لن أقترح بديلاً عن (قشور الديموقراطية) التي يسعى المجلس العسكري لفرضها. الوجه الوحيد للديموقراطية الذي بقي لنا حتى الآن، هو تحدي القمع في الشوارع، فلنُسمع إذاً الجميع أصواتنا.
[نشر المقال بالإنجليزية على موقع جدلية. وننشره مترجماً إلى العربية.]