بعد صدور المجموعة الشعرية الأولى للشاعر الأمريكي بريان ترنر الذي كان قد حارب في العراق ضمن جيش الاحتلال الأمريكي والمعنونة [Here, Bullet]“هنا أيتها الرصاصة” عام ٢٠٠٥ تم الإحتفاء بها من قبل الصحافة والمؤسسات الثقافية الأمريكية. وحاز صاحبها على الكثير من الجوائز المرموقة بالرغم من أن قصائده لا ترقى إلى المتميّز من تراث شعر الحرب المكتوب باللغة الإنكليزية عن الحربين العالميتين أو حرب ڤيتنام. ذهبتُ إلى أقرب مكتبة يومها وقلّبت صفحات الديوان فلم أجد ما يستوقفني، أو يدهشني. لكنني أدركت لماذا تم الاحتفاء بهذه الأشعار العابرة. فقد تم التعامل معها، بوعي وبدونه، على أنّها خطاب إخباري ينقل للقارئ رؤية الجندي وتجربته من صميم الحرب التي ظلت حقائقها بعيدة عن المواطن الأمريكي. و بالرغم من أنها قرئت وتم الترويج لها في مناخ المعارضة الخجلة المتصاعدة للحرب في تلك السنوات، فإنها لم َتُمشْكل أو تشكك، بأي شكل من الأشكال بثوابت المخيال الأمريكي السائد. ومع أنها تصوّر عنف الحرب بالطبع، إلا أنها لا تسائل الحرب نفسها ولا المناخ والأيديولوجيا التي أنتجتها. فهي تؤنسن الجندي (في جيش تطوّعي، وتيرنر تطوّع، كغيره للجيش) فيصبح هو الضحية. وتؤنسنه على حساب المدني، العراقي، (أو تساوي بينهما في أحسن الأحوال) الذي لا يملك خيار عدم الذهاب إلى الحرب والذي يقبع على الجانب الآخر من الماسورة أو فوهة المدفع كهدف. ولم تختلف رؤية الشاعر، عموماً، باستثناء نتف هنا وهناك، عن الرؤية التقليدية في الإعلام السائد في أمريكا، والتي لا تحيد كثيراً عن رؤية المؤسسة العسكرية أساساً.(١) وسأحاول توضيح ذلك في هذه المقالة.
استأنستُ آنذاك برأي شاعر أمريكي وأكاديمي يدرّس الشعر الأمريكي أثق برأيه وبحسّه النقدي كثيراً وكان لديه نفس الانطباع. وهو أنّ الشعر شعر عابر لكنه يتناغم مع المناخ السياسي السائد والاحتفاء به يندرج غالباً في سياق “الوطنية الثقافية” وتبجيل تضحيات الجنود. وقد أشار ثيو تيت مؤخراً في مقالة في “لوندون ريڤيو أوف بوكس” (كانون الثاني ٢٠١٣) إلى ذات الإشكالية في ما أسماه “الهستيريا” التي رافقت الإحتفال برواية كيڤن باورز “الطيور الصفر” (٢٠١٢) وهي الأخرى عادية، لأن كاتبها جندي عائد من العراق ولأن الكثير من النقاد يتخوّفون من وصمهم باللاوطنية إن هم قاربوا الرواية بجديتهم المعهودة وعاملوها كما يعاملون أي رواية أخرى. قررتُ يومها أن أكتب مقالة عن الموضوع، خصوصاً أنه يمثل أحد أعراض إشكاليات التعامل مع احتلال العراق في المخيال والثقافة الأمريكية، لكنني وضعت الملاحظات التي دونتها في ملف جانباً على أحد الرفوف ليقرأها الغبار لأنني انهمكت بإنجاز مشاريع أخرى.
في ربيع هذا العام وصلتني رسالة من تيرنر يدعوني فيها للإشتراك في عدد خاص من مجلة أدبية يحرره هو عن “أدب الحرب” ولم ألبّها. ومن بين ما ذكره في رسالته أنه قرأ أعمالي ومقالاتي باللغة الإنكليزية عندما كان في العراق (وكان هذا واضحاً لأنه اقتبس بيتين للجواهري وآخر للمعري كنت قد ترجمتها إلى الإنكليزية في مقال كتبته عن بغداد بعيْد احتلالها في صحيفة “الأهرام ويكلي”) ولكنه أضاف “سمعت من أصدقائي في العراق أنّك انتقدت أعمالي بشدة وأنا أحترم هذا الموقف لأن النقد ضروري.“ وللأمانة كانت الرسالة في غاية الأدب واللطافة.
لم أكن قد كتبت شيئاً عن شعر تيرنر، كما أسلفت، باستثناء تعليق قصير على صفحتي في الفيسبوك عندما سمعت بخبر صدور ترجمة مجموعته الشعرية إلى العربية والذي استقبله البعض بحفاوة. وتساءل البعض في تعليقاتهم عن أسباب موقفي ”السلبي” في التعليق. أليست ترجمة الأدب، عموماً، فعلاً يغني الثقافة؟ أليس التعرف إلى “الآخر” وإنتاجه الثقافي ضرورة؟ أليس الانفتاح على الثقافة الأمريكيّة والتحاور معها مهمّاً؟ هل كنت أمارسُ دور الرقيب وأدعو إلى الانغلاق؟ أجبت باختصار يومها مبيناً السبب وهذه المقالة حيّز للاستفاضة.
لا بد من التأكيد أنني أؤمن، بالطبع، بأن الترجمة ممارسة في غاية الأهميّة ولا شك أنها تغني معرفياً وفكرياً وجمالياً، وإلا ما كنتُ أنفقت الكثير من الوقت والجهد من عمري في الترجمة الأدبية من، وإلى، العربية والإنكليزية. لكل مترجم مطلق الحرية في اختيار ما يترجمه وفي تحديد أولوياته. ومن البديهي أيضاً أن كل شاعر حر في أن يكتب عمّا يشاء، وكذلك الأمر للقارئ والناقد. ولكن لا يمكننا أن نقرأ فعل الترجمة والنص المترجَم خارج سياقه التاريخي والسياسي. فالـ “آخر” المترجَم هنا هو المحتَل. والشعرالذي كتبه كُتِبَ في سياق غزو واحتلال عسكري مدمّر، وليس في نزهة أو رحلة استكشاف أو تبادل ثقافي نظمته وزارة الخارجية الأمريكيّة! والشاعر نفسه يقول في مقابلة مع “واشنطن بوست” أنّه كان يكتب القصائد “في دفتر يحتوي أيضاً على يومياته ومخططات لكمائن وعمليات عسكرية.”
لن تركّز هذه المقالة كثيراً على جماليات شعر تيرنر في “هنا، أيتها الرصاصة” لأنني، كقارئ، لم أجد الكثير باستثناء بعض الاستعارات الجميلة وهي تعد على أصابع اليد الواحدة. ما يهمني هو موضوع آخر، وهو تسليط الضوء على الإطار الثقافي والسياسي الذي كتب فيه تيرنر أشعاره ومدى هيمنته على النصوص. والإجابة على أسئلة جوهرية مهمة: ما هي رؤيته للعراق وكيف يمثّل العراق كحيّز والعراقيين كبشر في نصوصه (الغالبية العظمى من قصائد ديوانه كتبت في العراق)؟ وإلى أي مدى يراهم خارج الإطار الأيديولوجي السائد وخارج الخطاب الاستشراقي المتجذّر في اللاوعي الجمعي؟ وبالتالي فما هي صورة الجندي الأمريكي والذات الأمريكية، بما أن الأخير في علاقة جدلية، كمحتَل، مع العراقي؟ وكل هذا مقدمة لطرح سؤال مهم: لماذا المسارعة للإنصات إلى أشعار جنود الاحتلال الرديئة وإرهاصاتهم ونحن لم نسمع أو نقرأ بعد إلا النزر اليسير من عذابات العراقيين أنفسهم من جرّاء الاحتلال وما رافقه وسببه من كوارث والجراح لم تندمل بعد؟
قبل أن نجيب على هذه الأسئلة لا بد من التذكير ببعض الحقائق المهمة فيما يخص الجيش الأمريكي وعلاقته بالمجتمع. لقد ألغي التجنيد الإلزامي في الولايات المتحدة عام ١٩٧٣ ليصبح الجيش تطوّعياً. والغالبية العظمى من الجنود في المراتب الدنيا ينحدرون من طبقات فقيرة، أو من أقليّات عرقية يبقيها الهرم الاقتصادي الأمريكي في القاع ويسد أمامها فرص صعود السلّم الاجتماعي، فيصبح الجيش واحداً من الطرق القليلة جداً للحصول على دخل مضمون. ويستغل الجيش الفقر المدقع والجهل فيرسل الكثير من مندوبيه إلى مدارس المناطق الفقيرة، بالذات، لإغواء الشباب بالتلويح بمزايا العوائد المادية والمنح.
لكن هذا لا يغير حقيقة أن هؤلاء الجنود، سواء كانوا شعراء أم لا، لم يجبروا على الالتحاق بالجيش، كأولئك الذين خاضوا الحروب قبل عام ١٩٧٣. كما أن الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة ليست حروباً دفاعية ضد غزو أو تهديد خارجي، بل حروب غزو واحتلال هدفها الحفاظ على مصالح استراتيجية أو تحقيق أحلام إمبراطورية، لكنّها تُغلّف دائماً وتعلّب كحروب ذات أهداف حضاريّة سامية. ومن المهم أن نذكر أيضاً أن هناك أكثر من خمسمئة جندي أمريكي رفضوا المشاركة في حرب العراق لأسباب أخلاقية وسياسية. ومنهم من يقبع في السجون، ومنهم من هرب إلى كندا أو طلب اللجوء السياسي لكي لا يشترك في حرب عدوانية لا علاقة لها بالدفاع عن أمريكا بل بمصلحة النخب السياسية والاقتصادية. ومنهم من خاطر بحياته وحريته من أجل الحقيقة، مثل برادلي ماننغ، الذي اعتقل عام ٢٠١٠ لتمريره معلومات ووثائق سرية لويكيليكس كشفت ما كشفته عن سياسات الولايات المتحدة وممارساتها، والذي تجري محاكمته هذه الأيام.
إذاً، هناك من يرفض الحرب ويقاومها. لكن تيرنر، ليس واحداً من هؤلاء، مع أنه يقول في إحدى المقابلات إنه كان ضد الحرب! أما عن سبب التحاقه بالجيش (وكان قد خدم في البوسنة في ١٩٩٩-٢٠٠٠، بعد أن حصل على شهادة ماجستير في الكتابة الإبداعية، ثم حارب لمدة سنة في العراق بدءاً من تشرين الثاني ٢٠٠٣) فيقول إنّه التحق لأسباب مادية ولكن، وهذه النقطة مهمة للغاية، “القرار أعمق فأنا من عائلة ذات تاريخ طويل يدعو للفخر من الخدمة في الجيش. . . كنت أريد أن أتعرف على حقيقة أن تكون جندياً.” والغريب أن تيرنر يسير عكس التيّار، فالكثير من الجنود العائدين من الحرب يختارون دراسة الكتابة أو ممارستها كمتنفّس للتعبير عن تجربتهم المريرة وكنوع من العلاج للتعامل مع آثارها السلبية، أما تيرنر فقد درس الكتابة ثم تطوع بعدها في الجيش.
ليس العوز، إذاً، العامل الوحيد في الالتحاق بالجيش، فهناك الأيديولوجيا، بالطبع، والأساطير القومية المتجذّرة في المجتمع والتي يوظفها الجيش بكثافة في دعاياته، بالإضافة إلى توظيف خطاب الذكورية الفج لإغراء الرجال بالتطوّع. ولا يغيّر وجود النساء في الجيش من المعادلة، فيظل وجودهن رمزياً إلى حد بعيد وكاستثناء يؤكد القاعدة. فالجيش مؤسسة وحيز يعاد فيه إنتاج الذكورية الفجّة والعنف الذكوري ولكن بشكل جمعي وفي إطار “خدمة الوطن” و”محق الأعداء.” وهناك وباء اغتصاب مستفحل واعتداءات جنسية ضد المجنّدات تحاول وزارة الدفاع التعتيم عليه والتقليل من خطورته. (أنظر كتاب ميليسا براون المعنون [Enlisting Masculinity]“تجنيد الذكورة” (دار نشر جامعة أوكسفورد، ٢٠١٢) الذي يدرس توظيف مفاهيم الذكورة في دعايات الجيش في العقودة الأربعة الأخيرة في الإعلام الأمريكي، أي زمن الجيش التطوعي.
ليست عسكرة المجتمع الأمريكي وثقافته حديثة العهد. فغالباً ما يستذكر الكتّاب والمحلّلون عبارة (military-industrial complex) “المنظومة العسكرية-الصناعية” التي استخدمها الرئيس آيزنهاور في خطابه الوداعي عام ١٩٦١ محذّراً من التبعات السلبية لتأثير هذه المنظومة على المجتمع والاقتصاد والسياسة إذا لم يتم كبح جماحها. والمهم في سياقنا هو تأثير العسكرة ومفهوم “الحرب الدائمة” الأورويلي الذي تم ترسيخه ومأسسته في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وأثناء حروب الاحتلال التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق في عهد بوش، تأثيرهما على الثقافة بشكل عام. وقد أشارت مقالة في جريدة “نيويورك تايمز” في تشرين الثاني الماضي بعنوان “عسكرة أمريكا الدائمية”، وكاتبها ضابط احتياط ومؤرخ، وليس مدنياً، إلى المدى الذي تغلغل فيه خطاب الحرب والإحتفال بالعنف وشرعنته في فكر المواطنين بعد ان احتل شاشات التلفزيون والسينما وألعاب الڤيديو، والحيّز العام. (٢)
إذا كان تقديس العنف والعسكرة قد استحوذا على الفكر الجمعي والثقافة السائدة لدى المدنيين، فلنا أن نتخيل الحال في صفوف العسكر. لكن الملفت في الجيش الأمريكي، والأمر ينطبق على الجيش الإسرائيلي أيضاً، هو الإصرار على أسطورة يعاد إنتاجها والترويج لها وهي أن هذا الجيش، الذي يفتخر بأنه الأكثر قوة ومحقاً وتدميراً في العالم، هو، في الوقت ذاته، الأكثر إنسانية ورحمة تجاه الآخر وتجاه ضحاياه. ويتكرر الإدعاء بأنه يلتزم بأسمى القيم الإنسانية والحضارية ويحرص على تفادي إيقاع الضرر بالمدنيين. والأمثلة كثيرة على هذا في تصريحات ومقولات كهذه يكررها الجميع من وزير الدفاع سيئ الصيت، دونالد رمسفيلد (الذي قال في أحد مؤتمراته الصحفية عند بداية الحرب في العراق عندما سئل عن الخسائر بين المدنيين “لقد صُنِعَت هذه الأسلحة بكم كبير من الإنسانيّة” ونزولاً إلى الجنود. ويمكن العثور على تنويع أقل فجاجة على هذه الثيمة في أشعار تيرنر.
لا يقل غلاف الكتاب إشكاليةً عن محتواه، بل يكاد يكون هو، وقصة اختياره، استعارة بليغة لمقاربته الإشكالية لموضوعاته: