Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

الدولة المصرية العميقة وسيناريو الفشل: نبيذ ديناصوري قديم في زجاجات جديدة

$
0
0

بعد مرور عام على قيام ثورة 25 يناير، يبدو مطلوباً الآن القيام بكشف حساب لما آلت إليه الأمور في مصر. وبرغم اقتناعي بالفوارق المهمة بين تجربتَي التحول الثوري في 1952 و 2011 ، والتي تجعل القياس على المآلات والنتائج في التجربة الأولى قياساً فاسداً على المستويات التحليلية المختلفة، إلا أني لا أملك إلا استحضار الدلالة الرمزية لإحدى وقائع تلك المرحلة البائدة. ففي عام 1954 (العام المفصلي الذي حسم مصير ثورة يوليو) وبينما كان الناس في مصر منهمكين بحواديت ومسرحيات الفترة الانتقالية، مثل حواديت الدستور الدائم والمؤقت وسلطات الرئيس ورئيس الوزراء، و فرز القوى السياسية إلى جيدٍ ورديء والجدل الإسلامي العلماني وغيرها من الحواديت عالية الضجيج وفارغة المضمون فيما يخص موازين القوى الحقيقية، وما يحدث وراء الستار  (هل يختلف الوضع الحالي؟). كتب إحسان عبد القدوس، الصحفي والكاتب السياسي الشهير وقتها مقالاً صحفياً بعنوان "الجمعية السرية التي تحكم مصر" وكان يقصد بالطبع قيادة الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة. وكان جزاؤه الاعتقال والتعذيب لمدة ثلاثة أشهر في السجن الحربي وخرج بعدها أليفاً مدجّناً فقام بتطليق السياسة والتفرغ لكتابة الروايات العاطفية وقصص بنات نادي الجزيرة. 

تلك المسافة، بين ما هو بادٍ على السطح وما يحدث من وراء الستار من مسارات تفاوضية معقدة وصراعات قوة حاسمة تتحكم فيها "الجمعيات السرية" التي ما تزال ممسكة بمفاصل السلطة في مصر، تجعلني غير مهتم بشكل كبير بتفاصيل الاستحقاقات الانتخابية للفترة الانتقالية الحالية أو بهوية الفائزين والخاسرين أو بتفاصيل عملية كتابة الدستور التي حسمت مبكرا على ما أظن بعد تفاوضٍ طويلٍ و معقدٍ بين العسكر و الإخوان (تفاوض هو أشبه بجبل الجليد العائم حيث تخفي قمته الجسم الحقيقي القابع تحت الأعماق). لكني أنتظر المادة الخاصة بتشكيل "مجلس الدفاع الوطني" لأن هذا المجلس سيكون "الجمعية السرية" التي ستحكم مصر في الفترة القادمة قبل أن يتداعى المسار برمته تحت وطأة الضغوط الشعبية المتصاعدة. 

ويبدو لي انشغال الناس بتفاصيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية ونتائجها ومن يفوز ومن يخسر أمراً مبالغاً فيه. فالقضية ليست في الانتخابات بل في مسار وسياق وشروط هذه الانتخابات. العسكر يسيطرون على الدولة بأجنحتها الثلاثة التي تدير هذه الانتخابات (القضاء و الأمن و الإعلام) فيبدو  من غير المنطقيٍّ أن نتوقع نتائج لا تأتي على هواهم.

لا يعني هذا عدم استحقاقية الإسلاميين لتقدمهم الانتخابي لأن شعبيتهم وكفاءتهم التنظيمية وحضورهم الجماهيري لا شك فيه. وعلى الأغلب سيفوزون أيضاً إذا ما جرت انتخابات حرة تماماً دون رقابة العسكر. لكن ما أقوله هو إن الانتخابات الحالية يهندسها العسكر في مسارٍ هدفه إعادة إنتاج النظام وليس التحوّل الديمقراطي  وهذا مسار كارثي ليس فقط بالنسبة لأهداف الثورة و التحول الديمقراطي بل لمقدرات الوطن ككل. وفي تقديري فإن الدلالة الأهم للانتخابات كانت الهزيمة الكاسحة لفلول الحزب الوطني التي تكشف عن رفض شعبي حقيقي للنظام القديم قد لا ينعكس في صورة احتضان الكتلة الثورية بجذريتها لكنه يعبر بالتأكيد عن ميل شعبي حقيقي لإحداث التغيير و هنا تكمن الأزمة. 

الخطوة المتوقعة القادمة، في تصوري، هي الضغط على المؤسسات المنتخبة شعبياً، إي البرلمان والرئاسة من أجل تحقيق أهداف الثورة وتطهير الدولة والقصاص من قتلة الشهداء والحريات السياسية وتحسين مستوى معيشة المواطنين وأوضاعهم الاقتصادية. ويبدو فشلهم في تحقيق هذا متوقعاً والسبب، ببساطة، هو أن السلطة الحقيقية في البلاد على الدولة والاقتصاد والأمن، ستبقي في أيدي أناس آخرين، نراهم ولا نراهم، في مؤسسات الأمن الداخلي والخارجي والمؤسسات العسكرية والنخب البيروقراطية وشبكات المصالح الاقتصادية الكبرى أو ما اصطلح المحللون على تسميته "الدولة العميقة". ودولة العسكر العميقة في مشروعها لإعادة إنتاج نظامها تحتاج إلى ظهير جماهيري منتخب  يتولى قيادة برلمان ورئاسة منتخبيْن (شكلاً، على الأقل لان الانتخابات بوضعها الحالي ليست ديمقراطية في حقيقة الأمر). ويتوليان بدورهما الأمور الخدمية بينما يحتكر العسكر الملفات السياديّة. المقصود هنا، المصالح الاقتصادية الكبرى السياسة الخارجية والإستراتيجية والأمن الداخلي والخارجي.

وفي هذه الحالة لن يحدث أي تغير حقيقي في حياة الناس الذين خرجوا غاضبين في يناير 2011 احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وعلى انتهاك الحريات وغياب الكرامة الإنسانية في ظل النظام البوليسي. ويبدو تغيير هذا الواقع شديد الصعوبة في ظل معادلات النظام الذي يجري بناؤه.

إن أزمتنا الاقتصادية هي أزمة بنيوية وليست أزمة فساد نخبة حاكمة حتى ينظر إلى استبدالها بنخبة جديدة (النخبة الإخوانية في حالة مصر) وكأنه الحل : اقتصاد غير معتمد هيكلياً على الصناعات التحويلية، بينما اعتماده غير المعقول على استيراد الغذاء من الخارج  مما يخلق ثلاثية مروعة: البطالة وعجز الموازنة وعجز الميزان التجاري واعتماد الاقتصاد المصري على مصادر ريعية (إيرادات البترول والسياحة وقناة السويس وتحويلات المصري بالخارج). مما يجعلنا رهينة لتقلبات السوق العالمية وضحية للتضخم أيضاً.

  تحتاج مصر إلى إستراتيجية كاملة للتنمية وإلى سياسات مالية وإنفاقية وضريبية تقدمية محفزة للتنمية والتشغيل المحلي والتصنيع ورفع القدرة الاستهلاكية للسوق المحلي عن طريق رفع الأجور بالتوازي مع رفع الإنتاجية وإصلاح قطاعات التعليم والصحة والخدمات (ده لو بنتكلم عن رفع معيشة المواطن) وتطهير جهاز الدولة من الفساد المهدر للموارد و محاربة الاحتكارات. 

والصعب حدوث كل هذا، لا لانحيازات الإسلاميين اليمينية والنيوليبرالية الطابع على مستوى الفكر الاقتصادي والمصالح الطبقية فحسب، بل لأن الدولة العميقة لن تسمح بأي إصلاح حقيقي لجهاز الدولة ولن تسمح بأي مس لشبكة المصالح الاقتصادية الكبرى.

ولا تأسيس اقتصاد سياسي جديد ينحاز في سياساته وقراراته لمصالح الغالبية الشعبية ويخضع لمحاسبتها ورقابتها لأن كل هذا كفيل بتفكيك طبقات وطبقات من المصالح والمنافع المتراكمة التي تكونت عبر  أجيال  من عمل النظام باستبداديته السياسية و أوليجاركيته الاقتصادية ذات الطابع المافيوزي شديد الانحطاط. 

أما على مستوى الحريات السياسية فوزارة الداخلية هي خط أحمر لأن تفكيك شبكات الأمن القمعية بعيد عن متناول النظام الجديد/القديم وبعيد أيضاً عن رغبات العسكر لأنها تشكل الرأسمال الأهم الذي يعتمد عليه النظام. وهذا ليس رجماً بالغيب لكنه تحليل منطقي لما يراه الكثيرون من تقاعس الحكام عن استرداد حقوق الشهداء (بدءاً من شهداء يناير وحتى شهداء ديسمبر). لأنه لا يمكن عملياً تحقيق القصاص من الداخلية والعسكر  (و نتكلم هنا عن القصاص الحقيقي وليس أكباش الفداء) في ظل حكم الدولة العميقة سياسياً.

فإذا ما حاولت معاقبة الضباط المتهمين بقتل الشهداء فستلقى ممانعة من الداخلية ككل و بالتالي تخسر أدواتك القمعية. والحل الوحيد للموضوع هو تفكيك الداخلية وتنفيذ القصاص تمهيداً لبناء منظومة أمن جديدة تلتزم بفلسفة حكم القانون وحقوق الإنسان وهذا خيار مستبعد عند العسكر لأنهم يريدون استمرار النظام الأمني ومن ثم تأبيد أدواته البوليسية القمعية. هذا بالنسبة للشهداء الذين سقطوا على يد الداخلية وأعتقد أنه من العبث الحديث عن استعداد العسكر لقبول تنفيذ القصاص فيما يخص ما تورطوا هم فيه من قتل وانتهاك للحقوق بشكل مباشر أو غير مباشر. 

وبناء على كل هذا  ستنتهي ثورة التوقعات المتزايدة عند الناس إلى إحباط حقيقي. في هذه الحالة ستنهار ثقة الناس في البرلمان والرئيس والمسار السياسي الحالي، الذي كان معقد الآمال الأخير. وانهيار الأمل سيتحول إلى إحباط والإحباط قد يفتح الباب أمام موجة الغضب الثانية وشرارتها ستكون مطلبيةً بالأساس وتنطلق من الأزقة والحواري والمواقع الاقتصادية و الاجتماعية. 

تبدو الراديكالية في بعض الحالات الخيار النزيه حتى لو لم تكن قادرة على الحسم والانتصار.  لا تمتلك الثورة في خطابها الراديكالي بدائل آنية، في ضوء ضعفها التنظيمي. لكن ما يحدث حالياً من أوضاع وترتيبات هو نموذج للابديل أيضاً وللإفلاس في أكثرصوره وضوحاً، عندما يجري العمل على قدم وساق من أجل إنتاج أوليجاركية عسكرية مصرية، تتشارك فيها الهيمنة دولة العسكر العميقة مع اليمين السياسي والديني، بلا أية قدرة حقيقية لا على القمع الأمني ولا على التسكين الاقتصادي والاجتماعي بحكم سقوط ذراعي النظام الأمني والاقتصادي بالفعل في 25 يناير، أمام مجتمع متفجر ومأزوم اقتصاديا ودولة حداثة فاشلة.

هل هذا بديل حقيقي وواقعي، بصرف النظر عن عدم ديمقراطيته، بمقاييس السلطوية السياسية نفسها؟ بالتأكيد لا!

نحن سائرون نحو انهيار النظام السياسي الجديد/القديم برمته ويتحمل مسؤولية هذا الكثيرون لكن على رأس القائمة اولئك الذين يحاولون إعادة اختراع العجلة السلطوية الميتة في تجاهل لحقيقة أن النظام، برغم كل محاولات الإنعاش الصناعي، قد خسر معركة الشرعية سواءً شرعية القوة أو شرعية الأداء وأن الديناصورات مصيرها إلى الانقراض حتى ولو غيرت جلودها. 


Viewing all articles
Browse latest Browse all 6235

Trending Articles